القذّافي وعقود الردّة
في تلك الساعة القذّافية بامتياز، كان فكّ الإرتباط بكل أشكاله وأنواعه وشعائره وممارساته هو عنوانها، فمعمّر القذّافي كان يفكّ ارتباطاً ليعقُد آخر؛ ارتباط لا يمكن أنْ يعطي تفسيره حقه إلّا مختص من عصر الأنوار رحل، فلو أنّ «جان جاك روسو» كان حيّاً لألغى نظرياته في العقد الإجتماعي ليتعاقد مع القذّافي في كتابة كتاب أخضر آخر. لكن ما هو مضمون ذلك الكتاب المستحيل؟.
أعترف بعجزي في تحديد كُنه ذلك المضمون، إلّا أني أقرّ وأعترف أنّ القذّافي ضمّن تلك الليلة خمسة عقود. ولا يمكن فهم واستيعاب وتحليل تلك العقود الأكثر من اجتماعية إلّا إذا أدركنا بأنّ القذّافي كان يسير في خطاب «من أنتم» بخمسة اتجاهات رغم أنّه ظلّ واقفاً ليترك كلامه يمشي ليوصل الرسائل والبرقيات إلى كلّ من يهمّه الأمر في كل مكان.
في العقد الأوّل، لم يكن معمّر القذّافي ديكتاتوراً. لقد كان فرعوناً. فقد قال لــــ «موسى الثورات العربية»: إذهب أنت وعصاك، فأنا قائدكم الأعلى، «أنا ليس عندي منصب. معمّر القذّافي ليس عنده منصب. معمّر القذّافي ليس رئيساً.. هو قائد. أنا أرفع من المناصب التي يتقلّدها الرؤساء والأبّهات. أنا مقاتل مجاهد مناضل ثائر، من الخيمة من البادية.. التحمت معي المدن والقرى والواحات في ثورة تاريخية جاءت بالأمجاد. أين كنتم يا شذّاذ الآفاق. هذه بلادي. من أنتم؟».
بهذه الكلمات، نسف معمّر القذّافي كل عقد ارتضاه مع ليبيين استُثيروا عليه فثاروا. فالقذّافي، الذي يعترف في قرارة نفسه أنّه وطوال أكثر من أربعة عقود، كان رئيساً فوق العادة لكلّ الليبيين، نجده في تلك الساعة يُرفِّع نفسه ليس عن الرئاسة وليس عن الحكم وليس عن السلطة وليس عن القيادة فحسب، وإنّما عن أيّ وكل ارتباط مع من أطلق عليهم لقب «الجرذان».
لكنّ الذي فوّته علينا القذّافي، هو ميعاد «التجرذن»، فالجرذ جرذ، يولد جرذاً، فيكون ابن جرذ، وحفيد جرذ. لم يفوّت علينا القذّافي شيئاً اذن، لكنّ صعوبة الموقف وخطورة النعت دفعتا القذّافي أنْ يُمرحِل توصيفاً لم يقذفه رئيس على مرؤوسيه من قبل، ففي خطاب «من أنتم» اكتفى القذّافي بِغَرْز إبر الشكّ في آباء وأجداد من ثاروا عليه، حيث خاطبهم بالقول «من أنتم، أين كان آباؤكم وأجدادكم، أنتم يا مرتزقة عندما كانت خمسة قواعد أمريكية فوق الأرض الليبية.. من منكم فقس وجه بارود؛ فجّر قنبلة واحدة»؟.
غير أنّه في خطاب لاحق ألقاه وكانت طائرات الناتو تدكّ المدن الليبية، وكان من وصفهم بــــ «الجرذان» بمثابة قوات بريّة لحلف الناتو وفق مسار العمليات الحربية الميدانية، حيث لم تأت طعناتهم إلّا في الظهر، الذي أسدل الناتو عليه الستار، عند ذلك حرق القذّافي كل المراحل ليقول «أهلهم كانوا جواسيس للطليان، والآن هم عملاء وجواسيس لفرنسا ولبريطانيا، نفسهم الأحفاد يمشون على طريق آبائهم وأجدادهم، ونفسه تاريخ الخزي والعار والخيانة». إذن، «كل هذه الجراثيم والجرذان وهذه العصابات المسلّحة، حثالات مثل أجدادهم، سليل من الخيانة والنذاله، ليسوا منكم، ليسوا ليبيين، إسألوا الآن عن أي واحد مُنضَمّ لحلف الأطلسي، جدّه خائن أبوه خائن، شرذمة وسخة من جدّ جدّها».
بهذا التوصيف النافر والإستنكاري والسابقة يكون القذّافي قد حدّد ماهيّة خصمه، ليحدّد في ضوء تلك الماهيّة الأداة الواجب استخدامها للتخلُّص ليس من خصم، وإنّما من وباء يجب منع تفشيه وانتشاره.
لكنْ وقبل أنْ نحدّد معاً تلك الأداة وأنْ نتناقش معاً في جدوى فاعليتها، أجدْ أنّه من المهم القول، أنّنا بهذا التشريح والتظهير لحوادث مضت، لا نرمي إلى توثيقها على أهميته وأهميتها، وإنّما نرمي إلى إبراز شخصية رجل وهو في لحظة إحصاء أيامه المتبقية في الحكم والحياة يركل بقدمه اليسرى كل آيات الديبلوماسية والتقيّة والتوسّل، ليعتنق كبرياءً فرعونياً لم يمارسه حتى هتلر، وهذا ليس بمديح وليس بهجاء، نحن أمام بدوي يقتله الظمأ وتقطعت به السبل، لكنّه يرفض قطرة ماء من قاطع طريق.
لذلك، وبالعودة إلى تحديد الأداة التي استلّها معمّر القذّافي في مكافحة من نعتهم «جرذاناً»، لا نجد للجبنة مكاناً، لا بل لا يوجد للفخّ مكان. وبالرغم من أنّ «الجرذان» لا تجرؤ على الظهور إلّا في الليل، إلّا أنّ القذّافي أبى إلّا أنْ يكافح «الجرذان» في وضح النهار، أمّا أدوات مكافحته لها، فستجدون الكثير منها في جحفل «من أنتم»: «قد تندمون يوم لا ينفع الندم. نحن لم نستخدم القوّة بعد. أنقذوا أنفسكم قبل أن نعطي إشارة الزحف المقدّس. سنزحف أنا والملايين، لتطهير ليبيا شبر شبر، بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة، فرد فرد، حتى تتطهَّر البلاد من الدنس والأنجاس. وتعرفون هذا الزحف من أين يأتي».
وبمقارنة مبدعة عزف القذّافي على وتر حنّ له من أسماهم «الجرذان»، فهم ما ثاروا إلّا ليعودوا إلى كنف الملك الذي حذفه القذّافي بثورته، لكنّ ذلك الملك كان أكثر شراسة من معمّر القذّافي، وأكثر إجراماً إذا كان معمّر القذّافي مجرماً، لذلك تراجع معمّر القذّافي هذه المرّة عن هجومه على فكرة عقوبة الإعدام، فاستعارها من مصطفى عبد الجليل وقبله إدريس السّنوسي ليقدِّمها لأعدائه أنشودة كتبها إدريس السّنوسي ولحّنها مصطفى عبد الجليل في ذلك التسجيل الشهير في استديو مؤتمر الشعب العام.
هكذا أطبق معمّر القذّافي حصاره على كلّ من رفع رأسه بوجهه، فأعمدة الخيمة اليوم أكثر وأصلب ممّا كانت عليه من قبل، ولنْ يدخلها إلّا تائب نادم رغم أنّ أبواب رحمتها قد أغلقت.
وفي العقد الثاني، وجد معمّر القذّافي نفسه أمام مسؤولية صعبة جداً، تتمثّل بخلع الإحباط الذي استوطن في أفئدة أنصاره ومحبيه ومريديه وهم بالملايين كما ادّعى؛ إنّه الإحباط الذي أنجزته عبارة «القذّافي هرب»، فمع كلمة «هرب» لم يجد أنصارُ القذّافي الممتدّين على مساحة الوطن مفرّاً من الهروب إلى بيوتهم وركونهم فيها بانتظار حلول لحظة انبلاج حقيقة الهروب من عدمه، وهؤلاء لم يكن يكفيهم مجرّد اعتلاء قائدهم منصّة الخطابة، فالغزو الإعلامي العابر للعقول كان أقوى من ثقتهم بقائدهم هذه المرّة، فكان على القذّافي أنْ يبتكر سلاحاً يُوقف به المدّ الإعلامي الزاحف من كل حدب وصَوْب، وهل من سلاح أفتك من زمجرة صوته: «اُخرجوا من بيوتكم، اُخرجوا إلى الشوارع، أمّنوا الشوارع، أمسكوا الجرذان، لا تخافوا منهم. وأنتم الذين تحبّون معمّر القذّافي رجال نساء بنات أطفال، وأنتم الذين مع معمّر القذّافي الثورة، مع معمّر القذّافي المجد، العزّة لليبيا للشعب الليبي في القمة. من غد أو من الليلة تخرجون، كل المدن الليبية والقرى الليبية والواحات الليبية التي هي تحب معمّر القذّافي، لأنّ معمّر القذّافي هو المجد. اُخرجوا من بيوتكم وداهموهم في أوكارهم، ماذا أصابكم؟ ما هذا الخوف؟ ما هذا الرعب من هذه العصابات؟ إنّها عصابات مثل الجرذان، لا تمثّل شيئاً، لا تمثّل واحداً على المليون من الشعب الليبي، لا تساوي شيئاً، فهم حفنة من الشبان الذين يقلّدون الذي يجري في تونس وفي مصر، والذين أعطوهم الحبوب، والذين أمروهم من الداخل وقالوا لهم احرقوا؛ اسلبوا؛ إعملوا تقليد، جرذان. من الغد، يُفرض الأمن بالشرطة وبالجيش، من الغد تُفتح الحواجز، أي حواجز لا بدّ أنْ تُشال، أشيلوها أنتم من مدنكم، اقبضوا عليهم، طاردوهم في كل مكان، إصحوا، اُخرجوا من بيوتكم. اُخرجوا إلى الشوارع، أقفلوها كلها، وأمسكوا بهم كلهم وطاردوهم وفكّوا منهم سلاحهم، واعتقلوهم وحاكموهم وسلموهم إلى الأمن في أي مكان سمعتم بأنّ فيه حركة، هم قلة إرهابية تريد أنْ تحوّل ليبيا إلى إمارات تبع الظواهري أو تبع بن لادن. لقد تمّ توزيع الضباط الوحدويين الأحرارعلى كل قبائلهم ومناطقهم، ليقودوا هذه القبائل وهذه المناطق، ويؤمّنوها ويطهروها من هذه الجرذان، ويحاولوا القبض على الذي غرّر بأولادنا الصغار، ويقدموهم للمحكمة. إسمعوا الهتافات في الشوارع «بالروح بالدم نفديك ياقائدنا»، أنا لا أحد يستهدفني، هم يستهدفون ليبيا. أرجوكم أن تُوقفوا الرمي كي تسمع الناس الكلام الذي سأقوله لأنّه كلام خطير، يبدأ من الليلة ومن الغد، عمل آخر غير هذا الرصاص، الرصاص ما زلت لم أأمر به، لمّا يصدر أمر باستعمال القوة عندئذ نكون نحن أهلها. دقت ساعة العمل، دقت ساعة الزحف، دقت ساعة الإنتصار، لا رجوع، إلى الأمام، إلى الأمام.. ثورة ثورة».
لقد كان القذّافي مدركاً أن «مجزرة هروبه» أقوى من أي كلام ومن أيّ خطاب ومن أيّ زئير أو زمجرة، لدرجة أنّه وجد نفسه مضطراً أنْ يفتح أبواب بيوت مناصريه بيده ليخرجوا منها فيفترشوا الساحات والواحات، فهو غير قادر ميكانيكياً على فتحها، لكنّه قادر على خلعها وكسرها، فقبضته التي ضرب بها منبر الخطاب والتي لم يأمر بنصبها إلّا لخلعها، وهي القبضة التي أعقبت ثنائيتيه «إلى الأمام إلى الأمام، ثورة ثورة» كانت كافية لدفع ليبييه أنْ يثوروا على الإحباط الذي استُسكن في داخلهم، ويهجموا إلى الأمام باتجاه الأبواب المفتوحة مسبقاً، ليحدث الخروج والتدافع الأكبر.
فتح القذّافي اذن بيوت ليبيا من جديد، ليفتح ليبيا بجديدها، وهذه المرّة من معمّر وليس من ليبيا يأتي الجديد، لكنّ هذا الجديد لا تكتمل جديته إلّا بعودة اللجان الثورية.. حرس معمّر ومحراثه، فكان الأمر لهم بالنزول واستلال السيوف من جديد: «كل الشباب.. من غد يشكّل لجان الأمن الشعبي المحلي. والآن من الليلة، يبدأون في خياطة شعار أخضر وعليه كتابة بالأحمر لجان الأمن الشعبي المحلي وتؤمّن كل المدن الليبية حتى يُعاد تنظيم الأمن. ومن الغد، يتنظّم الشباب أيضاً في لجان الدفاع عن الثورة، الثورة تعني كل المكتسبات المادية والمعنوية، تعني المجد تعني العزّة، تعني معمّر القذّافي؛ تعني تاريخ الأجداد، الشهداء. غداً كل الشباب، يحمل شعار لجان الدفاع عن الثورة، في كل المدن الليبية والقرى الليبية والواحات الليبية، وتُشكل اللجان، وتلبس هذا الشعار كله على اليد. لجان الدفاع عن المكتسبات، يعني الدفاع عن النفط، الدفاع عن النهر الصناعي العظيم، الدفاع عن مشروع الإسكان العملاق الذي تكاليفه «71» ملياراً الذي يُسكِّن ثلاثة ملايين ليبي، المطارات، الموانىء، الطرق، الجسور، المكتسبات المادية. غداً تُشكّل لجان من الشباب، لجان الدفاع عن المكتسبات الثورية ولجان الدفاع عن الثورة، لجان الأمن الشعبي المحلي، ولجان الدفاع عن القيم الإجتماعية والآداب، وهذه ستتشكل من حملة القرآن الكريم الذين هم مليون شخص في ليبيا. حملة القرآن الكريم في ليبيا وأئمة المساجد النظفاء، الذين يعرفون السُنّة، ويعرفون الأصول، ويعرفون السلفية الحقيقية، وليس أقتل أقتل، من قتل نفساً بريئة كأنّه قتل البشرية كلها. وغداً تتشكّل منهم لجان الدفاع عن القيم الإجتماعية والآداب، تحمي الآداب في الشارع حيث تمشي البنت وتمشي المرأة، وحتى التي رأسها عريان، لا أحد يعاكسها، ولا أحد يخطفها مثل الخطف الذي يجري الآن. اطردوهم منذ الليلة، إبدأوا فيهم حتى تمسكوهم. أعتقد أنّ من غد، ستبدأ إدارة جديدة في الجماهيرية، جماهيرية جديدة، شعبيات جديدة، وبلديات جديدة، وسلطة شعبية جديدة حقيقية».
إنّ القذّافي بهذين العقدين الجديدين اللَّذَيْن أبرمهما ومن طرف واحد ـــــ خلافاً لقانون العقود التي تقتضي ارتضاء طرفي التعاقد على الأقل ـــــ كان متيقّناً أنّ عصمة المبادرة ستعود مرّة أخرى إلى يديه، بعد أنْ نجح في التصدّي لرياح الخماسين العاصفة من حدوده الشرقية والغربية لخلع خيمته، كيف لا، وعِمادا خيمته، يمناه ويسراه، الخميس والمعتصم، قد أخمدا النار المخطّط لها أنْ تقذفها تلك الرياح لتحرق أخضره قبل يابسه.
وهكذا، تفرّغ القذّافي للشعوب العربية ليُبرم معها عقده الثالث، ففي حين خاطب القذّافي مواطنيه بلغة الإستنكار والترفّع، نجده يخاطب الشعوب العربية بلغة الإستصغار المتشحة بالعار، فأنت أيتها الشعوب بدل أنْ تثوري فتزرعي القتل والفوضى في بلدانك وتخدمي أهداف الإستعمار ومشاريعه، كان من الأجدر بك أنْ تثوري من قبل انتصاراً لفلسطين والعراق، لكنّك أوهن من أنْ تطيحي بحاكم. فهل كان القذّافي مصيباً في تعاليه وغطرسته التهكمية التي مارسها بحقّ الشعوب العربية؟.
الإجابة على هذا السؤال ربّما تحتاج إلى بحث معمّق وموضوعي يتناول ملف الثورات العربية من كل جوانبه وبكل إشكالياته، وهذا ليس موضوعنا، لكن في الشقّ الليبي، فبالفعل كان القذّافي مصيباً، إذْ لا يمكن لاثنين أنْ يختلفا حول حقيقة أنّه لولا الحرب الجويّة والقصف الجوي الكثيف والمدمّر الذي قام به حلف شمال الأطلسي ضد كتائب القذّافي وجغرافيته، والذي طال كل مدنها وقراها بصحرائها وبحرها وجوها، لما تمكّن «ثوار ليبيا» من الصمود أمام القذّافي أكثر من أسبوع.
ولعلّ الدليل الأكثر سطوعاً على استحالة قدرة ثورة عربية على الإطاحة بأي نظام عربي دونما تدخل خارجي، يتمثّل بقدرة النظام السوري على قمع الحركات الإحتجاجية التي تشهدها سوريا منذ أكثر من عام. ولولا الدعم المالي والعسكري واللوجستي الذي تقدّمه كل من قطر والسعودية وتركيا إلى الثوار السوريين، وتغطيه الولايات المتحدة والغرب، كما يقول النظام السوري، لصحّ القول أنّ سوريا تعيش اليوم مرحلة ما بعد إخماد الثورة، خصوصاً أنّ العاصمتين السياسية والإقتصادية لسوريا، أي دمشق وحلب، لا تزالان مؤيدتين للنظام السوري المتربّع على عرش بلاد الأمويين.
نحن أمام زواج متعة إذن، عقده الغرب بقيادة الولايات المتحدة مع «الثوريين الجدد» من إسلاميين وغيرهم؛ عقد من إيجابياته، أنّه يلغي أحد الفوارق الفقهية المهمة والتي لطالما كانت محلّ اختلاف بين السُنّة والشيعة، فها هم السُنّة اليوم يمارسون «المتعة» التي لطالما انتقدوا الفاطميين على إحلالها وتحليلها، لكن مع فارق وهو أنّهم اليوم يمارسونها جهراً وبشراهة، على الملأ دون أيّ حمية أو تقيّة.
هي الفاطمية، التي فجّرها ذات يوم الزعيم الليبي ليعقُد عليها اليوم عقده الرابع على سُنّة الحرب وفرضها، فالفاطمية بالنسبة له ليست نزوة عابرة، فلقد افتتح بها خطبة «من أنتم»، عندما قال «يا شباب الفاطمية».
عقد رابع، أراد القذّافي إبرامه لتوجيه أكثر من دعوة، فهو صهر الفاطميين الذين يجب أنْ ينصهروا معه في بوتقة مصير واحد، فحتى الحياد الإيجابي في معركة الحسم لا يفيدهم، لا بل لا يُنجيهم من جهنّم المشروع الأميركي الأطلسي، الذي بدأت خيوطه تُنسج للفّها حول عنق العديل السوري، فهل قرأ الفاطميون الرسالة جيداً، أم انضمّوا مع الكل ليُظهروا القذّافي بمظهر المغتصب؟ علماً أنّهم يعلمون جيداً، أنّه لولا مساعدته غير المحدودة قبل عقود، لتمّ تغييب الثورة الخمينية ولما بزغ فجرها في ميعادها المضروب.
وعلى النقيض من ذلك ركل القذّافي أيّ يدٍ مشفقة يمكن أنْ تمتّد إليه من شبه الجزيرة العربية، فكانوا بالنسبة إليه كذاك القاطع للطريق الذي رفض القذّافي رغم ظمأه الشديد أنْ يأخذ منه شربة ماء، فرغم أنّه غريق إلّا أنّه لم يتمسّك بقشة ما. فهو ملك الملوك الذي طالما عمل على هزِّ عروش ملوك. لم يستجدِ القذّافي قطرة اذن، فكانت قطر وشبه الجزيرة اللتين ركلهما له بالمرصاد، فقصفوه بالعربية والجزيرة، لكن كعادته!.
كعادته، أصرّ القذّافي وهو محاصر في دائرته الضيّقة أنْ يتعامل مع الكبار، أنْ يساومهم ويتساوم معهم، أنْ يغازلهم ويغزل نسيجه معهم. فلمّا كانت الستراتيجيات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط تُطلق من منصتي أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب الدولي، ولمّا كان القذّافي قبل سنوات قد التقى مع الأميركيين في منتصف الطريق عندما أعلن في عام 2003 تخلّيه عن برامج أسلحة الدمار الشامل، لأسباب أدلى بها حينها ولم تقنع أحدا، فكانت ناتجة فقط عن انحناءة رأس في زمن قطع الرؤوس بالسيف الأميركي، فإنّه وفي خطاب «من أنتم» اعتقد واهماً، أنّه بخطوة التحالف مع الأميركيين في مكافحة الإرهاب قد ينجو من مصير أخذ الأميركيون القرار بشأنه، ففشل في ايلاج معركته في معركة مكافحة الأميركيين لــــ «الإرهاب». ولا يعود هذا الفشل إلى حقيقة أنّ «الإرهابي» أكثر استجابة للمصالح الستراتيجية الأميركية من «الجرذان»، وإنمّا يعود إلى تناسي أو نسيان القذّافي، أنّه ومنذ عقود تناوب على مرتبة الإرهابي الأول الذي حان وقت مكافحته الآن، ولا ضير أنْ يكون جحفل القاعدة هو رأس الجسر الذي تبدأ منه معركة مكافحة القذّافي.
كان القذّافي متيقّناً بأنّ عقده الخامس مع الأميركيين باطل بطلاناً مطلقاً لا نسبياً، لكن من يقف وقفته كان على استعداد أنْ يقامر ويغامر ويراهن حتى على الشيطان، لكن من دون التنازل عن المسلّمة الوحيدة وهي نديّة الصفقة. لكنّه يبقى في العين الأميركية «المارق الأكبر»، أي شيطان الأرض.
المصدر : http://alichendeb.blogspot.com
في تلك الساعة القذّافية بامتياز، كان فكّ الإرتباط بكل أشكاله وأنواعه وشعائره وممارساته هو عنوانها، فمعمّر القذّافي كان يفكّ ارتباطاً ليعقُد آخر؛ ارتباط لا يمكن أنْ يعطي تفسيره حقه إلّا مختص من عصر الأنوار رحل، فلو أنّ «جان جاك روسو» كان حيّاً لألغى نظرياته في العقد الإجتماعي ليتعاقد مع القذّافي في كتابة كتاب أخضر آخر. لكن ما هو مضمون ذلك الكتاب المستحيل؟.
أعترف بعجزي في تحديد كُنه ذلك المضمون، إلّا أني أقرّ وأعترف أنّ القذّافي ضمّن تلك الليلة خمسة عقود. ولا يمكن فهم واستيعاب وتحليل تلك العقود الأكثر من اجتماعية إلّا إذا أدركنا بأنّ القذّافي كان يسير في خطاب «من أنتم» بخمسة اتجاهات رغم أنّه ظلّ واقفاً ليترك كلامه يمشي ليوصل الرسائل والبرقيات إلى كلّ من يهمّه الأمر في كل مكان.
في العقد الأوّل، لم يكن معمّر القذّافي ديكتاتوراً. لقد كان فرعوناً. فقد قال لــــ «موسى الثورات العربية»: إذهب أنت وعصاك، فأنا قائدكم الأعلى، «أنا ليس عندي منصب. معمّر القذّافي ليس عنده منصب. معمّر القذّافي ليس رئيساً.. هو قائد. أنا أرفع من المناصب التي يتقلّدها الرؤساء والأبّهات. أنا مقاتل مجاهد مناضل ثائر، من الخيمة من البادية.. التحمت معي المدن والقرى والواحات في ثورة تاريخية جاءت بالأمجاد. أين كنتم يا شذّاذ الآفاق. هذه بلادي. من أنتم؟».
بهذه الكلمات، نسف معمّر القذّافي كل عقد ارتضاه مع ليبيين استُثيروا عليه فثاروا. فالقذّافي، الذي يعترف في قرارة نفسه أنّه وطوال أكثر من أربعة عقود، كان رئيساً فوق العادة لكلّ الليبيين، نجده في تلك الساعة يُرفِّع نفسه ليس عن الرئاسة وليس عن الحكم وليس عن السلطة وليس عن القيادة فحسب، وإنّما عن أيّ وكل ارتباط مع من أطلق عليهم لقب «الجرذان».
لكنّ الذي فوّته علينا القذّافي، هو ميعاد «التجرذن»، فالجرذ جرذ، يولد جرذاً، فيكون ابن جرذ، وحفيد جرذ. لم يفوّت علينا القذّافي شيئاً اذن، لكنّ صعوبة الموقف وخطورة النعت دفعتا القذّافي أنْ يُمرحِل توصيفاً لم يقذفه رئيس على مرؤوسيه من قبل، ففي خطاب «من أنتم» اكتفى القذّافي بِغَرْز إبر الشكّ في آباء وأجداد من ثاروا عليه، حيث خاطبهم بالقول «من أنتم، أين كان آباؤكم وأجدادكم، أنتم يا مرتزقة عندما كانت خمسة قواعد أمريكية فوق الأرض الليبية.. من منكم فقس وجه بارود؛ فجّر قنبلة واحدة»؟.
غير أنّه في خطاب لاحق ألقاه وكانت طائرات الناتو تدكّ المدن الليبية، وكان من وصفهم بــــ «الجرذان» بمثابة قوات بريّة لحلف الناتو وفق مسار العمليات الحربية الميدانية، حيث لم تأت طعناتهم إلّا في الظهر، الذي أسدل الناتو عليه الستار، عند ذلك حرق القذّافي كل المراحل ليقول «أهلهم كانوا جواسيس للطليان، والآن هم عملاء وجواسيس لفرنسا ولبريطانيا، نفسهم الأحفاد يمشون على طريق آبائهم وأجدادهم، ونفسه تاريخ الخزي والعار والخيانة». إذن، «كل هذه الجراثيم والجرذان وهذه العصابات المسلّحة، حثالات مثل أجدادهم، سليل من الخيانة والنذاله، ليسوا منكم، ليسوا ليبيين، إسألوا الآن عن أي واحد مُنضَمّ لحلف الأطلسي، جدّه خائن أبوه خائن، شرذمة وسخة من جدّ جدّها».
بهذا التوصيف النافر والإستنكاري والسابقة يكون القذّافي قد حدّد ماهيّة خصمه، ليحدّد في ضوء تلك الماهيّة الأداة الواجب استخدامها للتخلُّص ليس من خصم، وإنّما من وباء يجب منع تفشيه وانتشاره.
لكنْ وقبل أنْ نحدّد معاً تلك الأداة وأنْ نتناقش معاً في جدوى فاعليتها، أجدْ أنّه من المهم القول، أنّنا بهذا التشريح والتظهير لحوادث مضت، لا نرمي إلى توثيقها على أهميته وأهميتها، وإنّما نرمي إلى إبراز شخصية رجل وهو في لحظة إحصاء أيامه المتبقية في الحكم والحياة يركل بقدمه اليسرى كل آيات الديبلوماسية والتقيّة والتوسّل، ليعتنق كبرياءً فرعونياً لم يمارسه حتى هتلر، وهذا ليس بمديح وليس بهجاء، نحن أمام بدوي يقتله الظمأ وتقطعت به السبل، لكنّه يرفض قطرة ماء من قاطع طريق.
لذلك، وبالعودة إلى تحديد الأداة التي استلّها معمّر القذّافي في مكافحة من نعتهم «جرذاناً»، لا نجد للجبنة مكاناً، لا بل لا يوجد للفخّ مكان. وبالرغم من أنّ «الجرذان» لا تجرؤ على الظهور إلّا في الليل، إلّا أنّ القذّافي أبى إلّا أنْ يكافح «الجرذان» في وضح النهار، أمّا أدوات مكافحته لها، فستجدون الكثير منها في جحفل «من أنتم»: «قد تندمون يوم لا ينفع الندم. نحن لم نستخدم القوّة بعد. أنقذوا أنفسكم قبل أن نعطي إشارة الزحف المقدّس. سنزحف أنا والملايين، لتطهير ليبيا شبر شبر، بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة، فرد فرد، حتى تتطهَّر البلاد من الدنس والأنجاس. وتعرفون هذا الزحف من أين يأتي».
وبمقارنة مبدعة عزف القذّافي على وتر حنّ له من أسماهم «الجرذان»، فهم ما ثاروا إلّا ليعودوا إلى كنف الملك الذي حذفه القذّافي بثورته، لكنّ ذلك الملك كان أكثر شراسة من معمّر القذّافي، وأكثر إجراماً إذا كان معمّر القذّافي مجرماً، لذلك تراجع معمّر القذّافي هذه المرّة عن هجومه على فكرة عقوبة الإعدام، فاستعارها من مصطفى عبد الجليل وقبله إدريس السّنوسي ليقدِّمها لأعدائه أنشودة كتبها إدريس السّنوسي ولحّنها مصطفى عبد الجليل في ذلك التسجيل الشهير في استديو مؤتمر الشعب العام.
هكذا أطبق معمّر القذّافي حصاره على كلّ من رفع رأسه بوجهه، فأعمدة الخيمة اليوم أكثر وأصلب ممّا كانت عليه من قبل، ولنْ يدخلها إلّا تائب نادم رغم أنّ أبواب رحمتها قد أغلقت.
وفي العقد الثاني، وجد معمّر القذّافي نفسه أمام مسؤولية صعبة جداً، تتمثّل بخلع الإحباط الذي استوطن في أفئدة أنصاره ومحبيه ومريديه وهم بالملايين كما ادّعى؛ إنّه الإحباط الذي أنجزته عبارة «القذّافي هرب»، فمع كلمة «هرب» لم يجد أنصارُ القذّافي الممتدّين على مساحة الوطن مفرّاً من الهروب إلى بيوتهم وركونهم فيها بانتظار حلول لحظة انبلاج حقيقة الهروب من عدمه، وهؤلاء لم يكن يكفيهم مجرّد اعتلاء قائدهم منصّة الخطابة، فالغزو الإعلامي العابر للعقول كان أقوى من ثقتهم بقائدهم هذه المرّة، فكان على القذّافي أنْ يبتكر سلاحاً يُوقف به المدّ الإعلامي الزاحف من كل حدب وصَوْب، وهل من سلاح أفتك من زمجرة صوته: «اُخرجوا من بيوتكم، اُخرجوا إلى الشوارع، أمّنوا الشوارع، أمسكوا الجرذان، لا تخافوا منهم. وأنتم الذين تحبّون معمّر القذّافي رجال نساء بنات أطفال، وأنتم الذين مع معمّر القذّافي الثورة، مع معمّر القذّافي المجد، العزّة لليبيا للشعب الليبي في القمة. من غد أو من الليلة تخرجون، كل المدن الليبية والقرى الليبية والواحات الليبية التي هي تحب معمّر القذّافي، لأنّ معمّر القذّافي هو المجد. اُخرجوا من بيوتكم وداهموهم في أوكارهم، ماذا أصابكم؟ ما هذا الخوف؟ ما هذا الرعب من هذه العصابات؟ إنّها عصابات مثل الجرذان، لا تمثّل شيئاً، لا تمثّل واحداً على المليون من الشعب الليبي، لا تساوي شيئاً، فهم حفنة من الشبان الذين يقلّدون الذي يجري في تونس وفي مصر، والذين أعطوهم الحبوب، والذين أمروهم من الداخل وقالوا لهم احرقوا؛ اسلبوا؛ إعملوا تقليد، جرذان. من الغد، يُفرض الأمن بالشرطة وبالجيش، من الغد تُفتح الحواجز، أي حواجز لا بدّ أنْ تُشال، أشيلوها أنتم من مدنكم، اقبضوا عليهم، طاردوهم في كل مكان، إصحوا، اُخرجوا من بيوتكم. اُخرجوا إلى الشوارع، أقفلوها كلها، وأمسكوا بهم كلهم وطاردوهم وفكّوا منهم سلاحهم، واعتقلوهم وحاكموهم وسلموهم إلى الأمن في أي مكان سمعتم بأنّ فيه حركة، هم قلة إرهابية تريد أنْ تحوّل ليبيا إلى إمارات تبع الظواهري أو تبع بن لادن. لقد تمّ توزيع الضباط الوحدويين الأحرارعلى كل قبائلهم ومناطقهم، ليقودوا هذه القبائل وهذه المناطق، ويؤمّنوها ويطهروها من هذه الجرذان، ويحاولوا القبض على الذي غرّر بأولادنا الصغار، ويقدموهم للمحكمة. إسمعوا الهتافات في الشوارع «بالروح بالدم نفديك ياقائدنا»، أنا لا أحد يستهدفني، هم يستهدفون ليبيا. أرجوكم أن تُوقفوا الرمي كي تسمع الناس الكلام الذي سأقوله لأنّه كلام خطير، يبدأ من الليلة ومن الغد، عمل آخر غير هذا الرصاص، الرصاص ما زلت لم أأمر به، لمّا يصدر أمر باستعمال القوة عندئذ نكون نحن أهلها. دقت ساعة العمل، دقت ساعة الزحف، دقت ساعة الإنتصار، لا رجوع، إلى الأمام، إلى الأمام.. ثورة ثورة».
لقد كان القذّافي مدركاً أن «مجزرة هروبه» أقوى من أي كلام ومن أيّ خطاب ومن أيّ زئير أو زمجرة، لدرجة أنّه وجد نفسه مضطراً أنْ يفتح أبواب بيوت مناصريه بيده ليخرجوا منها فيفترشوا الساحات والواحات، فهو غير قادر ميكانيكياً على فتحها، لكنّه قادر على خلعها وكسرها، فقبضته التي ضرب بها منبر الخطاب والتي لم يأمر بنصبها إلّا لخلعها، وهي القبضة التي أعقبت ثنائيتيه «إلى الأمام إلى الأمام، ثورة ثورة» كانت كافية لدفع ليبييه أنْ يثوروا على الإحباط الذي استُسكن في داخلهم، ويهجموا إلى الأمام باتجاه الأبواب المفتوحة مسبقاً، ليحدث الخروج والتدافع الأكبر.
فتح القذّافي اذن بيوت ليبيا من جديد، ليفتح ليبيا بجديدها، وهذه المرّة من معمّر وليس من ليبيا يأتي الجديد، لكنّ هذا الجديد لا تكتمل جديته إلّا بعودة اللجان الثورية.. حرس معمّر ومحراثه، فكان الأمر لهم بالنزول واستلال السيوف من جديد: «كل الشباب.. من غد يشكّل لجان الأمن الشعبي المحلي. والآن من الليلة، يبدأون في خياطة شعار أخضر وعليه كتابة بالأحمر لجان الأمن الشعبي المحلي وتؤمّن كل المدن الليبية حتى يُعاد تنظيم الأمن. ومن الغد، يتنظّم الشباب أيضاً في لجان الدفاع عن الثورة، الثورة تعني كل المكتسبات المادية والمعنوية، تعني المجد تعني العزّة، تعني معمّر القذّافي؛ تعني تاريخ الأجداد، الشهداء. غداً كل الشباب، يحمل شعار لجان الدفاع عن الثورة، في كل المدن الليبية والقرى الليبية والواحات الليبية، وتُشكل اللجان، وتلبس هذا الشعار كله على اليد. لجان الدفاع عن المكتسبات، يعني الدفاع عن النفط، الدفاع عن النهر الصناعي العظيم، الدفاع عن مشروع الإسكان العملاق الذي تكاليفه «71» ملياراً الذي يُسكِّن ثلاثة ملايين ليبي، المطارات، الموانىء، الطرق، الجسور، المكتسبات المادية. غداً تُشكّل لجان من الشباب، لجان الدفاع عن المكتسبات الثورية ولجان الدفاع عن الثورة، لجان الأمن الشعبي المحلي، ولجان الدفاع عن القيم الإجتماعية والآداب، وهذه ستتشكل من حملة القرآن الكريم الذين هم مليون شخص في ليبيا. حملة القرآن الكريم في ليبيا وأئمة المساجد النظفاء، الذين يعرفون السُنّة، ويعرفون الأصول، ويعرفون السلفية الحقيقية، وليس أقتل أقتل، من قتل نفساً بريئة كأنّه قتل البشرية كلها. وغداً تتشكّل منهم لجان الدفاع عن القيم الإجتماعية والآداب، تحمي الآداب في الشارع حيث تمشي البنت وتمشي المرأة، وحتى التي رأسها عريان، لا أحد يعاكسها، ولا أحد يخطفها مثل الخطف الذي يجري الآن. اطردوهم منذ الليلة، إبدأوا فيهم حتى تمسكوهم. أعتقد أنّ من غد، ستبدأ إدارة جديدة في الجماهيرية، جماهيرية جديدة، شعبيات جديدة، وبلديات جديدة، وسلطة شعبية جديدة حقيقية».
إنّ القذّافي بهذين العقدين الجديدين اللَّذَيْن أبرمهما ومن طرف واحد ـــــ خلافاً لقانون العقود التي تقتضي ارتضاء طرفي التعاقد على الأقل ـــــ كان متيقّناً أنّ عصمة المبادرة ستعود مرّة أخرى إلى يديه، بعد أنْ نجح في التصدّي لرياح الخماسين العاصفة من حدوده الشرقية والغربية لخلع خيمته، كيف لا، وعِمادا خيمته، يمناه ويسراه، الخميس والمعتصم، قد أخمدا النار المخطّط لها أنْ تقذفها تلك الرياح لتحرق أخضره قبل يابسه.
وهكذا، تفرّغ القذّافي للشعوب العربية ليُبرم معها عقده الثالث، ففي حين خاطب القذّافي مواطنيه بلغة الإستنكار والترفّع، نجده يخاطب الشعوب العربية بلغة الإستصغار المتشحة بالعار، فأنت أيتها الشعوب بدل أنْ تثوري فتزرعي القتل والفوضى في بلدانك وتخدمي أهداف الإستعمار ومشاريعه، كان من الأجدر بك أنْ تثوري من قبل انتصاراً لفلسطين والعراق، لكنّك أوهن من أنْ تطيحي بحاكم. فهل كان القذّافي مصيباً في تعاليه وغطرسته التهكمية التي مارسها بحقّ الشعوب العربية؟.
الإجابة على هذا السؤال ربّما تحتاج إلى بحث معمّق وموضوعي يتناول ملف الثورات العربية من كل جوانبه وبكل إشكالياته، وهذا ليس موضوعنا، لكن في الشقّ الليبي، فبالفعل كان القذّافي مصيباً، إذْ لا يمكن لاثنين أنْ يختلفا حول حقيقة أنّه لولا الحرب الجويّة والقصف الجوي الكثيف والمدمّر الذي قام به حلف شمال الأطلسي ضد كتائب القذّافي وجغرافيته، والذي طال كل مدنها وقراها بصحرائها وبحرها وجوها، لما تمكّن «ثوار ليبيا» من الصمود أمام القذّافي أكثر من أسبوع.
ولعلّ الدليل الأكثر سطوعاً على استحالة قدرة ثورة عربية على الإطاحة بأي نظام عربي دونما تدخل خارجي، يتمثّل بقدرة النظام السوري على قمع الحركات الإحتجاجية التي تشهدها سوريا منذ أكثر من عام. ولولا الدعم المالي والعسكري واللوجستي الذي تقدّمه كل من قطر والسعودية وتركيا إلى الثوار السوريين، وتغطيه الولايات المتحدة والغرب، كما يقول النظام السوري، لصحّ القول أنّ سوريا تعيش اليوم مرحلة ما بعد إخماد الثورة، خصوصاً أنّ العاصمتين السياسية والإقتصادية لسوريا، أي دمشق وحلب، لا تزالان مؤيدتين للنظام السوري المتربّع على عرش بلاد الأمويين.
نحن أمام زواج متعة إذن، عقده الغرب بقيادة الولايات المتحدة مع «الثوريين الجدد» من إسلاميين وغيرهم؛ عقد من إيجابياته، أنّه يلغي أحد الفوارق الفقهية المهمة والتي لطالما كانت محلّ اختلاف بين السُنّة والشيعة، فها هم السُنّة اليوم يمارسون «المتعة» التي لطالما انتقدوا الفاطميين على إحلالها وتحليلها، لكن مع فارق وهو أنّهم اليوم يمارسونها جهراً وبشراهة، على الملأ دون أيّ حمية أو تقيّة.
هي الفاطمية، التي فجّرها ذات يوم الزعيم الليبي ليعقُد عليها اليوم عقده الرابع على سُنّة الحرب وفرضها، فالفاطمية بالنسبة له ليست نزوة عابرة، فلقد افتتح بها خطبة «من أنتم»، عندما قال «يا شباب الفاطمية».
عقد رابع، أراد القذّافي إبرامه لتوجيه أكثر من دعوة، فهو صهر الفاطميين الذين يجب أنْ ينصهروا معه في بوتقة مصير واحد، فحتى الحياد الإيجابي في معركة الحسم لا يفيدهم، لا بل لا يُنجيهم من جهنّم المشروع الأميركي الأطلسي، الذي بدأت خيوطه تُنسج للفّها حول عنق العديل السوري، فهل قرأ الفاطميون الرسالة جيداً، أم انضمّوا مع الكل ليُظهروا القذّافي بمظهر المغتصب؟ علماً أنّهم يعلمون جيداً، أنّه لولا مساعدته غير المحدودة قبل عقود، لتمّ تغييب الثورة الخمينية ولما بزغ فجرها في ميعادها المضروب.
وعلى النقيض من ذلك ركل القذّافي أيّ يدٍ مشفقة يمكن أنْ تمتّد إليه من شبه الجزيرة العربية، فكانوا بالنسبة إليه كذاك القاطع للطريق الذي رفض القذّافي رغم ظمأه الشديد أنْ يأخذ منه شربة ماء، فرغم أنّه غريق إلّا أنّه لم يتمسّك بقشة ما. فهو ملك الملوك الذي طالما عمل على هزِّ عروش ملوك. لم يستجدِ القذّافي قطرة اذن، فكانت قطر وشبه الجزيرة اللتين ركلهما له بالمرصاد، فقصفوه بالعربية والجزيرة، لكن كعادته!.
كعادته، أصرّ القذّافي وهو محاصر في دائرته الضيّقة أنْ يتعامل مع الكبار، أنْ يساومهم ويتساوم معهم، أنْ يغازلهم ويغزل نسيجه معهم. فلمّا كانت الستراتيجيات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط تُطلق من منصتي أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب الدولي، ولمّا كان القذّافي قبل سنوات قد التقى مع الأميركيين في منتصف الطريق عندما أعلن في عام 2003 تخلّيه عن برامج أسلحة الدمار الشامل، لأسباب أدلى بها حينها ولم تقنع أحدا، فكانت ناتجة فقط عن انحناءة رأس في زمن قطع الرؤوس بالسيف الأميركي، فإنّه وفي خطاب «من أنتم» اعتقد واهماً، أنّه بخطوة التحالف مع الأميركيين في مكافحة الإرهاب قد ينجو من مصير أخذ الأميركيون القرار بشأنه، ففشل في ايلاج معركته في معركة مكافحة الأميركيين لــــ «الإرهاب». ولا يعود هذا الفشل إلى حقيقة أنّ «الإرهابي» أكثر استجابة للمصالح الستراتيجية الأميركية من «الجرذان»، وإنمّا يعود إلى تناسي أو نسيان القذّافي، أنّه ومنذ عقود تناوب على مرتبة الإرهابي الأول الذي حان وقت مكافحته الآن، ولا ضير أنْ يكون جحفل القاعدة هو رأس الجسر الذي تبدأ منه معركة مكافحة القذّافي.
كان القذّافي متيقّناً بأنّ عقده الخامس مع الأميركيين باطل بطلاناً مطلقاً لا نسبياً، لكن من يقف وقفته كان على استعداد أنْ يقامر ويغامر ويراهن حتى على الشيطان، لكن من دون التنازل عن المسلّمة الوحيدة وهي نديّة الصفقة. لكنّه يبقى في العين الأميركية «المارق الأكبر»، أي شيطان الأرض.
المصدر : http://alichendeb.blogspot.com
الأحد مايو 31, 2015 3:20 pm من طرف الفارس الفارس
» الإتحاد الأوربي و ليبيا
الأحد مايو 31, 2015 3:15 pm من طرف الفارس الفارس
» مدينة سرت الليبية و الجفرة و مناطق الوسط تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش )
الأحد مايو 31, 2015 3:02 pm من طرف الفارس الفارس
» سرت و نقص البنزين
السبت مايو 16, 2015 2:28 pm من طرف الفارس الفارس
» حديث اخضر اللثام للمنظمات الحقوقية عن مايحدث في طرابلس و ورشفانة
الخميس أبريل 30, 2015 8:24 am من طرف عائشة القذافي
» الدكتور مصطفى الزائدي - Dr.Mustafa El Zaidi
الأربعاء أبريل 29, 2015 7:54 am من طرف عائشة القذافي
» بقلم الأستاذ : هشام عراب .
الأربعاء مارس 18, 2015 10:43 am من طرف عائشة القذافي
» نبوءة القذافي يحقّقها آل فبراير، ويقرّ بها العالم ،،
الأربعاء مارس 04, 2015 8:53 pm من طرف عائشة القذافي
» توفيق عكاشة يهدد التنظيم و يطالب أهالي سرت بعدم الذهاب للجامعة
الثلاثاء مارس 03, 2015 10:34 pm من طرف عائشة القذافي
» منظمة ضحايا لحقوق الانسان Victims Organization for Human Rights
الأربعاء يناير 21, 2015 8:49 am من طرف عائشة القذافي
» الدكتور مصطفى الزائدي - Dr.Mustafa El Zaidi
الأربعاء يناير 21, 2015 8:30 am من طرف عائشة القذافي
» معمر القذافي علي قيد الحياة بالدليل القاطع
الإثنين ديسمبر 08, 2014 8:24 pm من طرف الفارس الفارس