القذّافي يهرب!
انطلاقاً من هذه الحقائق، يمكن الآن فهم وتفسير محرضات ظهور سيف الإسلام القذّافي على التلفزيون الليبي مساء يوم 20 فبراير 2011، بينما كان الليبيون والعرب والعالم ينتظرون ظهور الزعيم الليبي معمّر القذّافي. سنرى لماذا كان الظهور المضاد الأوّل هو لسيف الإسلام وليس لأبيه.
لكن وقبل الحديث عن أسباب هذا الظهور، وقبل مناقشة وتحليل خطاب سيف الإسلام، يتوجّب عرض المشهد الأمني والميداني في ليبيا، قبيل إطلالة سيف الإسلام على شاشة التلفزيون الليبي.
غنيٌ عن القول أنّ المنطقة الشرقية قد أضحت بكاملها وليس مدينة بنغازي فقط، خارج سيطرة الدولة الليبية، وبات الإجهاز على أجهزة ومؤسّسات الدولة والنظام في المنطقة الشرقية على قدم وساق، وأخذت وسائل الإعلام والفضائيات تتناقل صور مجسّمات الكتاب الأخضر وقد تحولت ركاماً، مع ما تعنيه هذه الصورة من ضربة معنوية قوية لهيبة حكم القذّافي، وتطايرت الأخبار عن نوع من السيطرة لأمراء حركات وتنظيمات إسلامية مسلّحة، خصوصاً في درنة والبيضا وطبرق، أمّا بنغازي التي وصلتها رياح الحركات الإسلامية المسلّحة فقد اكتمل عقدها مع انضمام اللواء عبد الفتّاح يونس وزير الداخلية وآمر كتيبة الصاعقة لحركة 17 فبراير.
غير أن نار الإحتجاجات لم تقف عند حدود المنطقة الشرقية، حيث زحفت باتجاه الغرب الليبي، وخصوصاً منطقة الجبل الغربي وتحديداً مدن الزنتان والرجبان ونالوت بالإضافة إلى الزاوية المدينة الساحلية غربي العاصمة، فهذه المدن كانت أول من شقّ عصا الطاعة على نظام القذّافي وقرّرت الخروج عليه.
لكنّ لهيب النار المؤاتية للرياح الإقليمية والدولية وصلت إلى العاصمة الليبية طرابلس، فأحرقت بعض رموز النظام ومؤشِّرات نفوذه وقوته، بدءاً من مبنى أمانة الأمن العام أي (وزارة الداخلية) في الساحة الخضراء وبعض أقسام الشرطة في مختلف أنحاء المدينة، وصولاً إلى قاعة الشعب حيث مقر أمانة مؤتمر الشعب العام، وخرجت تظاهرات المحتجّين في معظم أحياء المدينة وخصوصاً الساحة الخضراء وشارع الجمهورية والضهرة وفشلوم وسوق الجمعة التي تفصل وتصل بين طرابلس وتاجوراء.
وعلى إيقاع كل عوامل الإثارة والتشويق والتحريض الإعلامي والسياسي والديني، أخذت الفضائيات تتسابق في بثّ أخبارها العاجلة المدعّمة بأفلام الفيديو المنتشرة على موقع «اليوتيوب» عن تهاوي عرش الزعيم الليبي، فهو المحاصر في باب العزيزية ومن ثم الهارب على متن طائرته إلى فنزويلا بحسب وزير الخارجية البريطاني الذي أراد من بثّ سموم هذه المعلومة تحريض الليبيين على كسر حاجز الخوف ودفعهم باتجاه مقر قيادة وإقامة العقيد القذّافي في «باب العزيزية» للإجهاز عليه، لكن أحداً لم يخرج لأن الوزير البريطاني لم يكن متماسكاً ولا صادقاً.
وإلى كلام الوزير البريطاني الهستيري عن قصد كانت منصّات الشيخ يوسف القرضاوي المنصوبة مباشرة على هواء الجزيرة السيلية، تطلق فتاويه التي تحرِّض على قتل القذّافي؛ إنّها الفتاوى التي لعبت دورها في اهتزاز مبايعات الكثير من مشايخ ليبيا للقذّافي، وانها الفتاوى التي أريد لها ان تلعب دورها في إعطاء التعبئة ضد القذّافي حدّها الأقصى المتمثّل، بالإضافة إلى قتله، بنزع الشرعية الدينية عنه وصولاً إلى حدّ تكفيره، من دون إغفال إحياء الإعلام الفضائي العربي والدولي استخدامه أوراق الطعن بإسلام القذّافي وليبيته وتسويق نكات تتحدّث عن يهوديته.
كان الهجوم المركّز ميدانياً وإعلامياً ودينياً على القذّافي مُتقن لأبعد الحدود؛ وهو الإتقان الذي يؤكّد أنّ الأمر مُعدّ منذ زمن وليس وليد لحظته، أو نتيجة لسوء تصرّف وإدارة، وما يؤكّد ذلك هو ضخامة الحملة الإعلامية وكثافة الفبركات الكاذبة، مثل هروب الدكتورة عائشة القذّافي إلى مالطا، وإقدام المعتصم تارة وهنيبعل تارة أخرى على قتل شقيقهم سيف الإسلام، ثم تتويجها بهروب القذّافي إلى فنزويلا.
في تلك اللحظة، ظهر العالم بجغرافيته وديموغرافيته محذوفاً عن الخريطة الكونية، فأقانيم الكون هي ثلاث؛ السماء وليبيا ورأي واحد.
في تلك اللحظة، ثبُت أنّ العقل البشري أوهن من خيط العنكبوت، فهناك «مُخرج» ما، جاثمٌ في مكان ما، مُتحكِّم بكبسة زرّ ما، يُدير عقول البشر.
في تلك اللحظة كانت الفضائيات العربية قبل الأجنبية قاطبة رهن إشارة ذلك المخرج، فهي مُنصاعة بكليتها لتعاليمه وتعليماته، فحتّى قناة الجزيرة التي لطالما أبهرت المشاهد وسيطرت على لاوعيه فأحالته وعياً أرادته هي لا هو، لم تقدّم الجديد، فهي بدورها كانت تحت إمرة ذلك «المخرج المجهول المعلوم»، فالجملة الساحرة الوحيدة التي أنست العرب عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام»، هي عبارة «القذافي هرب».
هذه العبارة كانت كافية للإعتراف الغبي بأنّ ليبيا هي معمّر، وأنّ معمّر هو ليبيا. وكانت أكثر من كافية للإعتراف بأنّ معمّر القذّافي هو أشجع الشجعان. لكن لماذا كانت كافية؟ لسبب واحد، لأنّ معمّر في الحقيقة لم يهرب. فلو أنّ هذا الرجل هرب فعلاً، لمحا بهروبه اثنين وأربعين عاماً وما قبلها من صورة لطالما عمد على إبرازها مرصّعة بفرادتها؛ ولأجل هذه الصورة ربّما كان معمّر القذّافي مدركاً وجوبية أنْ يكون فارساً، فتكوينه البدوي لم يكن في حساباته كافياً لأنْ يجيد ركوب الخيل. كان على الفضائيات إذن ترداد عبارة الفارس قد هرب. لكن ربّما كان القذّافي في قرارة نفسه يرفض أنْ تكون لحظته النهائية هي تلك التي حدّدها بإتقان غبي ذلك «المخرج»، فمن يعرف معمّر القذّافي ويلاحق شيفرة شخصيته لا بدّ أنْ يتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ الرجل لا يقبل أنْ تكون مشهديّة لحظة نهايته أقل من مشهدية لحظة نهاية عمر المختار، وكأنّ معمّر القذّافي هو من أخرج فيلم عمر المختار أو على الأقل هو من قرّر مشاهد وقوع عمر المختار في أسر أعدائه، راسماً من خلال هذا المشهد مشهديّة نهايته، وبالفعل كنّا أمام ذات المشهديّة مع فارق بسيط هو أنّ آسري عمر المختار قد رفعوا له القبّعة احتراماً وتقديراً، وتعاطوا معه كقائد عسكري، في حين أنّ آسري معمّر القذّافي تجاوزوا في طقوس أسرهم له سلوك أعداء وآسري عمر المختار.
القذّافي لم يهرب إلى فنزويلا، لكن لماذا أطلق «المخرج» تلك الجملة السحرية القاتلة الواشية: قد هرب؟ وعلى ماذا راهن؟، وما هو المشهد الذي قرّر صياغته من خلال الجملة السحرية إيّاها «أنّ القذافي قد هرب»؟، بمعنى آخر لماذا لم يطلق «المخرج» عبارة بديلة تقول أنّ القذّافي قد جُرح أو قُتل أو صُفي أو اعتُقل؟ وليس أنّ معمّراً قد هرب!؟.
دعونا قبل الإجابة على هذا السؤال ولأجل الإجابة عليه أنْ نُسلِّم بجملة حقائق:
أولّها، أنّ الهروب المادي لبن علي قد أسقط تونس، وأنّ الهروب السياسي لمبارك قد أسقط مصر، فهذان الرجلان يشتركان مع القذّافي في السلطة الشمولية المتّسمة بالديكتاتورية المطلقة.
ثانيها، أنّ معمّر القذّافي كرجل يختلف عن نظيريه التونسي والمصري والحكّام العرب كافة باستثناء الرئيس الراحل صدّام حسين، بالعنفوان والشموخ والتعالي والغطرسة وقوّة الشخصية.
ثالثها، أنّ المُراد الستراتيجي من إسقاط القذّافي يختلف اختلافاً جذرياً عن المُرادين الستراتيجيين في إسقاط نظيريه التونسي والمصري، وهذه مسألة سنتوسّع في الإضاءة عليها عند الحديث عن الدوافع الستراتيجية لحرب حلف شمال الأطلسي على ليبيا.
وانطلاقاً من هذه المعطيات الحقائق، وبالنظر إلى السرعة القياسية التي تمّ بها إسقاط الرئيسين التونسي والمصري، كان لا بدّ أنْ تُسقط هذه السرعة نفسها على الواقع الليبي ليسقط معمّر القذّافي بسرعة البرق. فالحقيقة التي أدركها «المخرج» مخرج الثورات العربية، جيداً، هي أنّ القذّافي إذا لم يسقط بسرعة البرق هذه، فستفقد الثورتان التونسية والمصرية بريقهما من جهة، وسيفقد «الثوار الليبيون» أرواحهم من جهة ثانية.
وإنّ إسقاط الطاغية القذّافي بسرعة البرق يتوقّف فقط على أمرين جدّ مهمين:
الأول، أنْ تُدفع كتائبه العسكرية إلى إلقاء السلاح جانباً.
والثاني، أنْ يُدفع نصف الشعب الليبي أيّ الشريحة الشعبية الواسعة التي تتشكّل من التحالف القبائلي العريض الذي يقوده الزعيم الليبي، للنظر إلى القذّافي بعين الإحتقار.
فالمخرج المتمركز في غرفة التحكم والسيطرة، أدرك إدراكاً عميقاً أنّ القذّافي يُحلّق بجناحين، شعبي وعسكري، ولذلك يجب وبرصاصة واحدة شلّ الجناحين معاً، ذلك أنّ شرود الرصاصة عن أحد الجانحين ستسمح للقذّافي بالإستمرار في التحليق ولمسافة طويلة بجناح واحد، كيف لا، ومعروف عن القذّافي أنّه لا يبالي حين يترك فضاءً ليحلّق بآخر وعلى جناح السرعة.
وبالفعل، فإنّ الرصاصة المُتقنة والمدروسة التي أطلقها «المخرج» وأسماها «أنّ القذّافي هرب إلى فنزويلا» قد أصابت جناحاً وشردت عن الآخر، فالجناح الشعبي أُصيب بشلل نصفي، وطرابلس غُزيت من الثوار، في حين التزم أنصار القذّافي بيوتهم في تلك الليلة المشهودة. لكنّ مجريات الأحداث أثبتت أنّ الجناح العسكري كان يفعل فعله وعلى أكثر من جبهة، وتمثّلت الجبهة الأهم للجناح العسكري في منع الشلل النصفي الذي أصاب الجناح الشعبي من التحوّل إلى شلل كامل، وهذا ما حصل.
ومن يريد التثبُت من صحة وإستقامة هذا التحليل، فعليه أنْ يُولّي وجهه شطر الكلام الحرام، أيّ الكلام الذي يقول بأنّ معمّر القذّافي قُتل أو جُرح أو اعتُقل؛ نُوصفه بالحرام لأنّ «المخرج» غيّبه منذ البداية ليكون الحلال الوحيد هو الهروب.
لِنُعِدْ معاً رسم المشهد من جديد وفق فرضية أنّ القذّافي قد قُتل أو جُرح أو اعتُقل، فبعد لحظة من إذاعة الخبر على الفضائيات ستتوالى الأخبار العاجلة الأخرى بشكل متواصل ومكثّف وهي تنقل ردود فعل الكتائب العسكرية المؤيّدة للقذّافي انطلاقاً من طرابلس والغرب عامة وصولاً إلى سرت وانتهاءً بسبها والجنوب، وهي الردود التي إذا اختصرناها فسنصل إلى جملة مفيدة واحدة معناها أنّ الحرب الأهلية في ليبيا قد وقعت.
لكنّ الحرب الأهلية هي الحرام الأكبر وأوّل ما ترذله المطامع الستراتيجية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. وكجملة اعتراضية يمكن القول اليوم أنّ الحرب الأهلية الباردة في ليبيا قد اندلعت لحظة التمثيل بالجسد الأسير لمعمّر القذّافي.
وُلدت جملة المخرج «القذّافي هرب» من رحم صمت مُطبق التزمه القذّافي وأركان حكمه منذ الخامس عشر من فبراير، لكنّ القذّافي لم يهرب، فالذي هرب هو سيف الإسلام! نعم لقد هرب سيف الإسلام.. إلى أبيه من جديد.
المصدر : http://alichendeb.blogspot.com/2013/04/blog-post_2210.html
انطلاقاً من هذه الحقائق، يمكن الآن فهم وتفسير محرضات ظهور سيف الإسلام القذّافي على التلفزيون الليبي مساء يوم 20 فبراير 2011، بينما كان الليبيون والعرب والعالم ينتظرون ظهور الزعيم الليبي معمّر القذّافي. سنرى لماذا كان الظهور المضاد الأوّل هو لسيف الإسلام وليس لأبيه.
لكن وقبل الحديث عن أسباب هذا الظهور، وقبل مناقشة وتحليل خطاب سيف الإسلام، يتوجّب عرض المشهد الأمني والميداني في ليبيا، قبيل إطلالة سيف الإسلام على شاشة التلفزيون الليبي.
غنيٌ عن القول أنّ المنطقة الشرقية قد أضحت بكاملها وليس مدينة بنغازي فقط، خارج سيطرة الدولة الليبية، وبات الإجهاز على أجهزة ومؤسّسات الدولة والنظام في المنطقة الشرقية على قدم وساق، وأخذت وسائل الإعلام والفضائيات تتناقل صور مجسّمات الكتاب الأخضر وقد تحولت ركاماً، مع ما تعنيه هذه الصورة من ضربة معنوية قوية لهيبة حكم القذّافي، وتطايرت الأخبار عن نوع من السيطرة لأمراء حركات وتنظيمات إسلامية مسلّحة، خصوصاً في درنة والبيضا وطبرق، أمّا بنغازي التي وصلتها رياح الحركات الإسلامية المسلّحة فقد اكتمل عقدها مع انضمام اللواء عبد الفتّاح يونس وزير الداخلية وآمر كتيبة الصاعقة لحركة 17 فبراير.
غير أن نار الإحتجاجات لم تقف عند حدود المنطقة الشرقية، حيث زحفت باتجاه الغرب الليبي، وخصوصاً منطقة الجبل الغربي وتحديداً مدن الزنتان والرجبان ونالوت بالإضافة إلى الزاوية المدينة الساحلية غربي العاصمة، فهذه المدن كانت أول من شقّ عصا الطاعة على نظام القذّافي وقرّرت الخروج عليه.
لكنّ لهيب النار المؤاتية للرياح الإقليمية والدولية وصلت إلى العاصمة الليبية طرابلس، فأحرقت بعض رموز النظام ومؤشِّرات نفوذه وقوته، بدءاً من مبنى أمانة الأمن العام أي (وزارة الداخلية) في الساحة الخضراء وبعض أقسام الشرطة في مختلف أنحاء المدينة، وصولاً إلى قاعة الشعب حيث مقر أمانة مؤتمر الشعب العام، وخرجت تظاهرات المحتجّين في معظم أحياء المدينة وخصوصاً الساحة الخضراء وشارع الجمهورية والضهرة وفشلوم وسوق الجمعة التي تفصل وتصل بين طرابلس وتاجوراء.
وعلى إيقاع كل عوامل الإثارة والتشويق والتحريض الإعلامي والسياسي والديني، أخذت الفضائيات تتسابق في بثّ أخبارها العاجلة المدعّمة بأفلام الفيديو المنتشرة على موقع «اليوتيوب» عن تهاوي عرش الزعيم الليبي، فهو المحاصر في باب العزيزية ومن ثم الهارب على متن طائرته إلى فنزويلا بحسب وزير الخارجية البريطاني الذي أراد من بثّ سموم هذه المعلومة تحريض الليبيين على كسر حاجز الخوف ودفعهم باتجاه مقر قيادة وإقامة العقيد القذّافي في «باب العزيزية» للإجهاز عليه، لكن أحداً لم يخرج لأن الوزير البريطاني لم يكن متماسكاً ولا صادقاً.
وإلى كلام الوزير البريطاني الهستيري عن قصد كانت منصّات الشيخ يوسف القرضاوي المنصوبة مباشرة على هواء الجزيرة السيلية، تطلق فتاويه التي تحرِّض على قتل القذّافي؛ إنّها الفتاوى التي لعبت دورها في اهتزاز مبايعات الكثير من مشايخ ليبيا للقذّافي، وانها الفتاوى التي أريد لها ان تلعب دورها في إعطاء التعبئة ضد القذّافي حدّها الأقصى المتمثّل، بالإضافة إلى قتله، بنزع الشرعية الدينية عنه وصولاً إلى حدّ تكفيره، من دون إغفال إحياء الإعلام الفضائي العربي والدولي استخدامه أوراق الطعن بإسلام القذّافي وليبيته وتسويق نكات تتحدّث عن يهوديته.
كان الهجوم المركّز ميدانياً وإعلامياً ودينياً على القذّافي مُتقن لأبعد الحدود؛ وهو الإتقان الذي يؤكّد أنّ الأمر مُعدّ منذ زمن وليس وليد لحظته، أو نتيجة لسوء تصرّف وإدارة، وما يؤكّد ذلك هو ضخامة الحملة الإعلامية وكثافة الفبركات الكاذبة، مثل هروب الدكتورة عائشة القذّافي إلى مالطا، وإقدام المعتصم تارة وهنيبعل تارة أخرى على قتل شقيقهم سيف الإسلام، ثم تتويجها بهروب القذّافي إلى فنزويلا.
في تلك اللحظة، ظهر العالم بجغرافيته وديموغرافيته محذوفاً عن الخريطة الكونية، فأقانيم الكون هي ثلاث؛ السماء وليبيا ورأي واحد.
في تلك اللحظة، ثبُت أنّ العقل البشري أوهن من خيط العنكبوت، فهناك «مُخرج» ما، جاثمٌ في مكان ما، مُتحكِّم بكبسة زرّ ما، يُدير عقول البشر.
في تلك اللحظة كانت الفضائيات العربية قبل الأجنبية قاطبة رهن إشارة ذلك المخرج، فهي مُنصاعة بكليتها لتعاليمه وتعليماته، فحتّى قناة الجزيرة التي لطالما أبهرت المشاهد وسيطرت على لاوعيه فأحالته وعياً أرادته هي لا هو، لم تقدّم الجديد، فهي بدورها كانت تحت إمرة ذلك «المخرج المجهول المعلوم»، فالجملة الساحرة الوحيدة التي أنست العرب عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام»، هي عبارة «القذافي هرب».
هذه العبارة كانت كافية للإعتراف الغبي بأنّ ليبيا هي معمّر، وأنّ معمّر هو ليبيا. وكانت أكثر من كافية للإعتراف بأنّ معمّر القذّافي هو أشجع الشجعان. لكن لماذا كانت كافية؟ لسبب واحد، لأنّ معمّر في الحقيقة لم يهرب. فلو أنّ هذا الرجل هرب فعلاً، لمحا بهروبه اثنين وأربعين عاماً وما قبلها من صورة لطالما عمد على إبرازها مرصّعة بفرادتها؛ ولأجل هذه الصورة ربّما كان معمّر القذّافي مدركاً وجوبية أنْ يكون فارساً، فتكوينه البدوي لم يكن في حساباته كافياً لأنْ يجيد ركوب الخيل. كان على الفضائيات إذن ترداد عبارة الفارس قد هرب. لكن ربّما كان القذّافي في قرارة نفسه يرفض أنْ تكون لحظته النهائية هي تلك التي حدّدها بإتقان غبي ذلك «المخرج»، فمن يعرف معمّر القذّافي ويلاحق شيفرة شخصيته لا بدّ أنْ يتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ الرجل لا يقبل أنْ تكون مشهديّة لحظة نهايته أقل من مشهدية لحظة نهاية عمر المختار، وكأنّ معمّر القذّافي هو من أخرج فيلم عمر المختار أو على الأقل هو من قرّر مشاهد وقوع عمر المختار في أسر أعدائه، راسماً من خلال هذا المشهد مشهديّة نهايته، وبالفعل كنّا أمام ذات المشهديّة مع فارق بسيط هو أنّ آسري عمر المختار قد رفعوا له القبّعة احتراماً وتقديراً، وتعاطوا معه كقائد عسكري، في حين أنّ آسري معمّر القذّافي تجاوزوا في طقوس أسرهم له سلوك أعداء وآسري عمر المختار.
القذّافي لم يهرب إلى فنزويلا، لكن لماذا أطلق «المخرج» تلك الجملة السحرية القاتلة الواشية: قد هرب؟ وعلى ماذا راهن؟، وما هو المشهد الذي قرّر صياغته من خلال الجملة السحرية إيّاها «أنّ القذافي قد هرب»؟، بمعنى آخر لماذا لم يطلق «المخرج» عبارة بديلة تقول أنّ القذّافي قد جُرح أو قُتل أو صُفي أو اعتُقل؟ وليس أنّ معمّراً قد هرب!؟.
دعونا قبل الإجابة على هذا السؤال ولأجل الإجابة عليه أنْ نُسلِّم بجملة حقائق:
أولّها، أنّ الهروب المادي لبن علي قد أسقط تونس، وأنّ الهروب السياسي لمبارك قد أسقط مصر، فهذان الرجلان يشتركان مع القذّافي في السلطة الشمولية المتّسمة بالديكتاتورية المطلقة.
ثانيها، أنّ معمّر القذّافي كرجل يختلف عن نظيريه التونسي والمصري والحكّام العرب كافة باستثناء الرئيس الراحل صدّام حسين، بالعنفوان والشموخ والتعالي والغطرسة وقوّة الشخصية.
ثالثها، أنّ المُراد الستراتيجي من إسقاط القذّافي يختلف اختلافاً جذرياً عن المُرادين الستراتيجيين في إسقاط نظيريه التونسي والمصري، وهذه مسألة سنتوسّع في الإضاءة عليها عند الحديث عن الدوافع الستراتيجية لحرب حلف شمال الأطلسي على ليبيا.
وانطلاقاً من هذه المعطيات الحقائق، وبالنظر إلى السرعة القياسية التي تمّ بها إسقاط الرئيسين التونسي والمصري، كان لا بدّ أنْ تُسقط هذه السرعة نفسها على الواقع الليبي ليسقط معمّر القذّافي بسرعة البرق. فالحقيقة التي أدركها «المخرج» مخرج الثورات العربية، جيداً، هي أنّ القذّافي إذا لم يسقط بسرعة البرق هذه، فستفقد الثورتان التونسية والمصرية بريقهما من جهة، وسيفقد «الثوار الليبيون» أرواحهم من جهة ثانية.
وإنّ إسقاط الطاغية القذّافي بسرعة البرق يتوقّف فقط على أمرين جدّ مهمين:
الأول، أنْ تُدفع كتائبه العسكرية إلى إلقاء السلاح جانباً.
والثاني، أنْ يُدفع نصف الشعب الليبي أيّ الشريحة الشعبية الواسعة التي تتشكّل من التحالف القبائلي العريض الذي يقوده الزعيم الليبي، للنظر إلى القذّافي بعين الإحتقار.
فالمخرج المتمركز في غرفة التحكم والسيطرة، أدرك إدراكاً عميقاً أنّ القذّافي يُحلّق بجناحين، شعبي وعسكري، ولذلك يجب وبرصاصة واحدة شلّ الجناحين معاً، ذلك أنّ شرود الرصاصة عن أحد الجانحين ستسمح للقذّافي بالإستمرار في التحليق ولمسافة طويلة بجناح واحد، كيف لا، ومعروف عن القذّافي أنّه لا يبالي حين يترك فضاءً ليحلّق بآخر وعلى جناح السرعة.
وبالفعل، فإنّ الرصاصة المُتقنة والمدروسة التي أطلقها «المخرج» وأسماها «أنّ القذّافي هرب إلى فنزويلا» قد أصابت جناحاً وشردت عن الآخر، فالجناح الشعبي أُصيب بشلل نصفي، وطرابلس غُزيت من الثوار، في حين التزم أنصار القذّافي بيوتهم في تلك الليلة المشهودة. لكنّ مجريات الأحداث أثبتت أنّ الجناح العسكري كان يفعل فعله وعلى أكثر من جبهة، وتمثّلت الجبهة الأهم للجناح العسكري في منع الشلل النصفي الذي أصاب الجناح الشعبي من التحوّل إلى شلل كامل، وهذا ما حصل.
ومن يريد التثبُت من صحة وإستقامة هذا التحليل، فعليه أنْ يُولّي وجهه شطر الكلام الحرام، أيّ الكلام الذي يقول بأنّ معمّر القذّافي قُتل أو جُرح أو اعتُقل؛ نُوصفه بالحرام لأنّ «المخرج» غيّبه منذ البداية ليكون الحلال الوحيد هو الهروب.
لِنُعِدْ معاً رسم المشهد من جديد وفق فرضية أنّ القذّافي قد قُتل أو جُرح أو اعتُقل، فبعد لحظة من إذاعة الخبر على الفضائيات ستتوالى الأخبار العاجلة الأخرى بشكل متواصل ومكثّف وهي تنقل ردود فعل الكتائب العسكرية المؤيّدة للقذّافي انطلاقاً من طرابلس والغرب عامة وصولاً إلى سرت وانتهاءً بسبها والجنوب، وهي الردود التي إذا اختصرناها فسنصل إلى جملة مفيدة واحدة معناها أنّ الحرب الأهلية في ليبيا قد وقعت.
لكنّ الحرب الأهلية هي الحرام الأكبر وأوّل ما ترذله المطامع الستراتيجية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. وكجملة اعتراضية يمكن القول اليوم أنّ الحرب الأهلية الباردة في ليبيا قد اندلعت لحظة التمثيل بالجسد الأسير لمعمّر القذّافي.
وُلدت جملة المخرج «القذّافي هرب» من رحم صمت مُطبق التزمه القذّافي وأركان حكمه منذ الخامس عشر من فبراير، لكنّ القذّافي لم يهرب، فالذي هرب هو سيف الإسلام! نعم لقد هرب سيف الإسلام.. إلى أبيه من جديد.
المصدر : http://alichendeb.blogspot.com/2013/04/blog-post_2210.html
الأحد مايو 31, 2015 3:20 pm من طرف الفارس الفارس
» الإتحاد الأوربي و ليبيا
الأحد مايو 31, 2015 3:15 pm من طرف الفارس الفارس
» مدينة سرت الليبية و الجفرة و مناطق الوسط تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش )
الأحد مايو 31, 2015 3:02 pm من طرف الفارس الفارس
» سرت و نقص البنزين
السبت مايو 16, 2015 2:28 pm من طرف الفارس الفارس
» حديث اخضر اللثام للمنظمات الحقوقية عن مايحدث في طرابلس و ورشفانة
الخميس أبريل 30, 2015 8:24 am من طرف عائشة القذافي
» الدكتور مصطفى الزائدي - Dr.Mustafa El Zaidi
الأربعاء أبريل 29, 2015 7:54 am من طرف عائشة القذافي
» بقلم الأستاذ : هشام عراب .
الأربعاء مارس 18, 2015 10:43 am من طرف عائشة القذافي
» نبوءة القذافي يحقّقها آل فبراير، ويقرّ بها العالم ،،
الأربعاء مارس 04, 2015 8:53 pm من طرف عائشة القذافي
» توفيق عكاشة يهدد التنظيم و يطالب أهالي سرت بعدم الذهاب للجامعة
الثلاثاء مارس 03, 2015 10:34 pm من طرف عائشة القذافي
» منظمة ضحايا لحقوق الانسان Victims Organization for Human Rights
الأربعاء يناير 21, 2015 8:49 am من طرف عائشة القذافي
» الدكتور مصطفى الزائدي - Dr.Mustafa El Zaidi
الأربعاء يناير 21, 2015 8:30 am من طرف عائشة القذافي
» معمر القذافي علي قيد الحياة بالدليل القاطع
الإثنين ديسمبر 08, 2014 8:24 pm من طرف الفارس الفارس