ثوّار بلا أنصار
إنّ مشهديّة افتراش الجماهير التونسية والمصرية ميادين وساحات المدن الرئيسة إيذاناً بحلول ساعة صفر تغيير النظام والإطاحة به، عبر آلية سُمّيت «ثورة»، هي مشهدية غابت عن الموقعة الليبية. فــــ «الساحة الخضراء ـــــ ميدان الشهداء» التي تتوسّط العاصمة الليبية طرابلس، والمرادفة لميدان التحرير في مصر، ودوّار اللؤلؤة في البحرين وميدان السبعين في اليمن، وشارع بورقيبة في تونس، وساحة الأمويين في دمشق، ظلّت وحتى لحظة سقوط طرابلس، محتلّة من قبل فقرائها والمناصرين للزعيم الليبي، فهي سقطت عسكرياً ولم تسقط شعبياً، وهي بذلك لم ترتقِ إلى مستوى نظيراتها من الساحات والميادين العربية الأخرى، فبقيت شوكة في حلق «ثوار» ليبيا، ذلك أنّهم لم يُمنحوا شرف المجد الذي يصبون إليه، وهو إسقاط نظام «الطاغية» من العاصمة بعصمة الجموع، فهو سقط بعصا الأطلسي.
وإنّنا إذْ نستحضر هذه المشهديّة المعكوسة، إنّما لنضع المجهر على حقيقة تُلحّ في تظهير نفسها، وهي أنّ الجغرافيا الليبية المترامية الأطراف والمُحاطة براً وبحراً بأكثر من ربيع عربي، لم تشهد ذلك الطوفان البشري الذي ملأ الساحات والشوارع والميادين في كل من تونس ومصر.
وربّ سائل يسأل وهو محقّ بسؤاله: لعلّ هذه المفارقة صحيحة، فعدم خروج الليبيين مع سواعدهم وحناجرهم لتصدح عالياً مردّدة «الشعار الشفرة» إيّاه الذي تردّد في كل من تونس ومصر، بأنّ الشعب يريد إسقاط النظام، إنّما هو ناتج عن هلع استوطن أفئدة الليبيين منذ سنوات، فهناك طاغية لا يرحم ولا يعرف سوى لغة الدم والبطش.
وقبل أنْ نقدِّم الإجابة الشافية على ما تقدّم، نتوجّه إلى السائل بالقول: إنّك بهذا الطرح قد سألت نصف السؤال، إذْ إنّك أظهرت الواقعين التونسي والمصري وكأنّهما نقيض للواقع الليبي، فأنت بطرحك هذا تكون قد اختصرت التاريخ والحاضر ومنحت مبارك وبن علي صكّي حرية وديمقراطية، فعلى ماذا وضد مَن ثارت الجماهير التونسية والمصرية، ألمْ يثُر التونسيون على الرئيس زين العابدين بن علي بصفته قامعاً مستبداً، وألم يثُر المصريون على الرئيس حسني مبارك بصفته دكتاتوراً؟ ألم ينجز الشعبان التونسي والمصري ثورتين؟ فماذا تعني الثورة إنْ لم تعنِ تغيير وإلغاء وإنهاء الشمولية لإحلال التعدّدية وحكم الشعب مكانها؟.
ونستمر في النقاش مع صديقنا السائل ونقول له: هل لو دخل الجيش التونسي والجيش المصري منذ اللحظة الأولى إلى ميادين وساحات مدن كل من تونس ومصر، وإتخذا مواقف حازمة فحواها «إنّ حكم بن علي ومبارك خط أحمر، وعليه يحظّر كل أنواع التجمّع والتظاهر والتجمهر ونشر الفوضى وتهديد السلم والأمن القومي والتعرّض للمصالح العامة ومصالح المواطنين والأجانب للخطر.. الخ»، ألن يكون الحديث عن أيّ ربيع عربي مجرّد أضغاث أحلام؟ ماذا يعني ذلك؟.
وإنّنا إذ نطرح هذه التساؤلات فذلك ليس بقصد الإجابة عليها، وإنّما للذهاب مباشرة باتجاه خط نار الدقائق الأولى للثورة التونسية، وهي الدقائق التي رسمت وبسرعة البرق النتيجة الحتمية لهذه الثورة، ففي الدقائق الأولى التي لم يتحرّك خلالها أكثر من بضعة عشرات من شبّان وشابات تونس كانت قيادة الجيش التونسي مصرّة على إبراز وتظهير مناخ عام في البلاد مؤدّاه أنّ مهمة الجيش التونسي هي الدفاع عن حدود تونس وسيادتها وليس من ضمنها أيّة علاقة في الإشتباك القائم بين جماهير الشعب التونسي وسيّد قصر قرطاج، فكان هذا المناخ ـــــ الرسالة أكثر من كاف كي يتجرّأ الشعب التونسي على كسر حاجز الهلع والخوف المستوطن في أنفس وأفئدة التونسيين منذ سنوات.
وبالطبع هذا مناخ حق أريد به باطل، والباطل هنا ليس السيِّئ أو الحرام، وإنّما هو فكّ ارتباط حصل وللمرّة الأولى بين الرئيس التونسي ورئاسة أركان جيشه. لكن من وقف وراء فكّ الإرتباط هذا؟ ولمنْ أتت كلمة السرّ بالخصوص؟ ومن أرسلها أصلاً؟.
أيّاً يكن الجواب على هذه الأسئلة التي يكذب من يدّعي امتلاك أجوبتها الشافية، تبقى حيادية الجيش التونسي هي من ألهب الثورة، وما البوعزيزي إلّا فتيلها.
ربّما نعثر على الجواب عند رئيس أركان القوّات المسلّحة المصرية الفريق سامي عنان الذي كان في زيارة لواشنطن قبيل إندلاع الثورة في مصر ببضعة أيّام، وهذه الزيارة تعفينا من تكرار سرد مسيرة الثورة المصرية من ألفها إلى يائها. غير أنّ هذه الزيارة لا تعفينا من البحث عن «نصف الجواب للسؤال السابق» للصديق السائل أعلاه.
أمّا النصف الثاني من الإجابة لصديقنا السائل فينهض على مجموعة من المحاور والمرتكزات التي لا يمكن تجاهلها والتغاضي عنها أو القفز من فوقها، وإنّ مناقشتها بشكل موضوعي وسليم تتطلّب أول ما تتطلّبه، نزع وإزالة كل الرواسب والأفكار التي عملت الفضائيات على رميها في سلّة أذهاننا التي تعرّضت لغزو وقذف إعلامي مركّز من قبل آلة إعلامية إعلانيّة ضخمة منتشرة على امتداد الكرة الأرضية.
وأنا بدوري سأكون موضوعياً وأنطلق معكم طواعية وأقول نعم، إنَّ معمّر القذّافي عاش وحكم ومات ديكتاتوراً. فهكذا يستوي النقاش ونكون كلّنا على مسافة واحدة للحكم على ما حصل في ليبيا، وأسماه البعض ثورة.
لمن لا يعلم، فإنّ الذي حكم ليبيا وطيلة أربعة عقود من الزمن هو مروحة تحالف قبائلي متغيّرة حسب الظروف، لكنّ الثابت فيها أنّ القذّافي هو دوماً قائد التحالف القبائلي الأقوى والأكبر، وعندما نتحدّث عن تحالف قبائلي فيجب أنْ يتجه ذهننا بشكل تلقائي إلى أنّ هناك مجتمعاً منقسماً بين تحالفين، بغض النظر عن حجم وقوة كل منهما، وفي الحسابات القبائلية تبدأ حسابات نقاط القوة والضعف من العدد قبل العدّة والعتاد.
وعندما نعود إلى سؤال صديقنا حول سبب عدم افتراش الليبيين لمدنهم وقراهم وساحاتهم للمطالبة برحيل نظام القذّافي، علينا تركيز البحث والبدء في العدّ من نصف الشعب الليبي بالحدّ الأقصى، على اعتبار أنّ نصف الشعب الليبي الآخر هو مؤيّد لمعمّر القذّافي، ليس لأنّه مؤمن به وبأطروحاته السياسية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها فحسب، وإنّما لأنّ هذا النصف هو جزء لا يتجزّأ من كلّ يقوده القذّافي بصفته متربّعاً على عرش تحالف قبائلي عريض يمتدّ من شرق ليبيا إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، ناهيك عن وسطها الذي يُشكِّل واسطة عقد حكم وسلطة وقوّة ونفوذ معمّر القذّافي. في الحالة الليبية اذن، علينا بناء حساباتنا بالإنطلاق من نصف عدد السكان في الحدّ الأقصى.
أمّا في الحالتين التونسية والمصرية، فالإشكالية الديموغرافية مختلفة اختلافاً جذرياً عمّا هو الحال في ليبيا. وإذا ما أردنا شرح وتشريح النسق الديموغرافي في كل من تونس وليبيا كتوطئة ضرورية لتبيان حالة التمايز الليبية في هذا المجال، نقول:
ممّا لا شك فيه أنّ المجتمع العربي ككل مشكّل من مجموعة كبيرة من القبائل والعشائر والعائلات الكبيرة وهي إنْ بدأت بقريش لكنّها لا تنتهي بها، لكنّ العرب في معظم البلاد العربية خرجوا من إطارهم القبلي إلى حدّ ما في علاقاتهم وتفاعلاتهم بعضهم مع بعض ومن ثمّ مع الدولة بوصفها الإطار المنظّم لنسق العلاقات بين المواطنين.
لكنّ ليبيا شذّت عن هذا الواقع، حيث بقي العامل القبلي هو العامل الرئيس المتحكِّم بالعلاقات بين أبناء القبيلة الواحدة وبين علاقات القبيلة مع القبائل الأخرى، والقبيلة في ليبيا بهذا المعنى هي النواة الأولى في التقسيم الإجتماعي وهي حجر الأساس الذي تُبنى عليه الهياكل السياسية والإدارية والأمنية والإقتصادية للدولة الليبية من رأس الهرم وحتى القاعدة.
ما نود قوله في هذا الصدد هو أنّ الرابط بين الليبي وقبيلته هو رابط قوي ومتين وشديد ومن الصعب فكّه، لذلك نجد أنّ بعض المفاهيم والظواهر الإجتماعية والعادات والتقاليد العربية البدوية الضاربة في التاريخ ما زالت راسخة في المجتمع الليبي، فالثأر مثلاً يرتقي لدى القبائل الليبية إلى مرتبة شبه الواجب الشرعي، ويكاد يشكل المعيار الأقوى لرجولة ابن القبيلة الليبية المدين بثأر.
وهكذا فإنّ الإنطلاق المُلزم للواقع المجتمعي لا يجب أنْ يدع أي مجال للشك عند الحديث عن مسألتين هامتين:
أمّا الأولى، فتتمثّل بأنّ قبيلة القذاذفة التي ينتمي إليها الزعيم الليبي معمّر القذّافي، رغم قلّة عدد ابنائها مقارنة مع القبائل الكبرى، الا انها من القبائل الوازنة بفعل تحالفها خصوصاً مع قبيلة ورفلة.
أمّا الثانية، فتتجسّد بحقيقة لا بدّ من إبرازها، وهي أنّ الزعيم الليبي ومنذ عام 1975 وهو العام الذي تعرّض فيه لمحاولة إنقلاب فاشلة قادها عمر المحيشي وكان هدفها ينحصر فقط في الإطاحة بالقذّافي وتركيبته الحاكمة ممثّلة بحركة الضباط الأحرار، وهي العملية التي أحدثت ارتدادات إيجابية على القذّافي تمثّلت ببروز التفاف قبائلي حاضن وداعم له، قد استثمر هذا الإلتفاف القبائلي في تدعيم أوتاد خيمته، وعمل من خلال هذا الإستثمار الإيجابي على إحداث تزاوج بين سلطة الحكم السياسية والعسكرية والمالية التي يمثّل وبين السلطة الإجتماعية ممثّلة بالقبائل التي كما أسلفنا ثبّتت أقدامها تدرُّجاً فأصبحت مكوِّناَ أساسياً من مكوِّنات حكم القذّافي وقوّة سيطرته ونفوذه.
هذا التزاوج انفرد به القذّافي دون غيره من الحكّام العرب، على اعتبار أنّ هؤلاء اعتمدوا في سلطتهم على القوة العسكرية دون الاجتماعية، لذلك نعود ونقول إنّه أكثر من طبيعي أنْ يخرج أكثر من ثمانين بالمئة من الشعب التونسي ومثلهم من الشعب المصري ليثوروا ضد نظامي بن علي ومبارك، لكن من المستحيل وغير الطبيعي أنْ يثور أكثر من أربعين في المئة في أحسن الأحوال من الشعب الليبي ضد معمّر القذّافي، لذلك كان عليهم أنْ يخرجوا مسلّحين، فالديموغرافيا تبتلع الديموغرافيا، أمّا السلاح فلا يبتلع السلاح، ليس لأنّه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وإنّما لأنّه لا صوت يعلو فوق صوت معمّر القذّافي وفق أبجديات الديمقراطية القبلية.
هنا لا بدّ من الإنطلاق من ذلك للقول بأنّ الفضائيات وخصوصاً العربية منها، قد تعمّدت تسطيح الوقائع وتجهيل الحقائق عبر إبراز الصراع وشخصنته وتصويره على أنّه بين الشعب الليبي من جهة والقذّافي وأبنائه وعشيرته من جهة أخرى.
فكيف يكون الحال عندما يمثّل تحالف قبائلي مجتمعي أكثر من نصف عدد سكان البلاد، ويمتلك مقومات الحكم والسلطة والقوة؟، عند ذلك من المستحيل وبالنظر لميزان القوة المختل أنْ يواجه النصف الآخر الضعيف والمحكوم النصف الحاكم والأقوى بآليات تقليدية ويلتزم بقواعد اللعبة العادية.
من سمع يوماً أنّ قبائل «التوتسي» في راوندا الإفريقية تظاهرت ضد قبائل «الهوتو»، أو أنّ قبائل الهوتو تظاهرت ضد قبائل التوتسي؟ فلو كان الأمر يعالج بالتظاهر السلمي المدني لما سمعنا أنّ في إفريقيا دولة إسمها راوندا، فهذه الدولة لم يذع صيتها إلّا على خلفية التنازع القبلي والمجازر الدموية بين قبيلتيها الشهيرتين.
ولو لم يكن الهنود الحمر سكان أميركا الأصليين، يشكّلون تكتلاً قبلياً كبيراً، لما زخرت قصص التاريخ بذكر مآسي حروب الإبادة التي تعرّضوا لها من قبل الأميركيين.
ولولا سيطرة الروح القبلية على كل اعتبار آخر، لما شاهدنا سيف الإسلام القذّافي في أوّل خطاب له بُعيد اكتمال تمرّد المنطقة الشرقية، وهو يتبرّأ من كل أطروحاته السابقة من مشروع ليبيا الغد إلى نغمة الإصلاح والتطوير والشفافية ومحاربة الفساد والقطط السمان والدستور ويضرب بهم عرض الحائط ويرميهم في مزبلة الصراع القبلي على السلطة. ففي ذلك الخطاب كان سيف الإسلام ولأوّل مرة، هو الإبن السياسي لأبيه معمّر القذّافي.
المصدر : http://alichendeb.blogspot.com/2013/04/blog-post_2210.html
إنّ مشهديّة افتراش الجماهير التونسية والمصرية ميادين وساحات المدن الرئيسة إيذاناً بحلول ساعة صفر تغيير النظام والإطاحة به، عبر آلية سُمّيت «ثورة»، هي مشهدية غابت عن الموقعة الليبية. فــــ «الساحة الخضراء ـــــ ميدان الشهداء» التي تتوسّط العاصمة الليبية طرابلس، والمرادفة لميدان التحرير في مصر، ودوّار اللؤلؤة في البحرين وميدان السبعين في اليمن، وشارع بورقيبة في تونس، وساحة الأمويين في دمشق، ظلّت وحتى لحظة سقوط طرابلس، محتلّة من قبل فقرائها والمناصرين للزعيم الليبي، فهي سقطت عسكرياً ولم تسقط شعبياً، وهي بذلك لم ترتقِ إلى مستوى نظيراتها من الساحات والميادين العربية الأخرى، فبقيت شوكة في حلق «ثوار» ليبيا، ذلك أنّهم لم يُمنحوا شرف المجد الذي يصبون إليه، وهو إسقاط نظام «الطاغية» من العاصمة بعصمة الجموع، فهو سقط بعصا الأطلسي.
وإنّنا إذْ نستحضر هذه المشهديّة المعكوسة، إنّما لنضع المجهر على حقيقة تُلحّ في تظهير نفسها، وهي أنّ الجغرافيا الليبية المترامية الأطراف والمُحاطة براً وبحراً بأكثر من ربيع عربي، لم تشهد ذلك الطوفان البشري الذي ملأ الساحات والشوارع والميادين في كل من تونس ومصر.
وربّ سائل يسأل وهو محقّ بسؤاله: لعلّ هذه المفارقة صحيحة، فعدم خروج الليبيين مع سواعدهم وحناجرهم لتصدح عالياً مردّدة «الشعار الشفرة» إيّاه الذي تردّد في كل من تونس ومصر، بأنّ الشعب يريد إسقاط النظام، إنّما هو ناتج عن هلع استوطن أفئدة الليبيين منذ سنوات، فهناك طاغية لا يرحم ولا يعرف سوى لغة الدم والبطش.
وقبل أنْ نقدِّم الإجابة الشافية على ما تقدّم، نتوجّه إلى السائل بالقول: إنّك بهذا الطرح قد سألت نصف السؤال، إذْ إنّك أظهرت الواقعين التونسي والمصري وكأنّهما نقيض للواقع الليبي، فأنت بطرحك هذا تكون قد اختصرت التاريخ والحاضر ومنحت مبارك وبن علي صكّي حرية وديمقراطية، فعلى ماذا وضد مَن ثارت الجماهير التونسية والمصرية، ألمْ يثُر التونسيون على الرئيس زين العابدين بن علي بصفته قامعاً مستبداً، وألم يثُر المصريون على الرئيس حسني مبارك بصفته دكتاتوراً؟ ألم ينجز الشعبان التونسي والمصري ثورتين؟ فماذا تعني الثورة إنْ لم تعنِ تغيير وإلغاء وإنهاء الشمولية لإحلال التعدّدية وحكم الشعب مكانها؟.
ونستمر في النقاش مع صديقنا السائل ونقول له: هل لو دخل الجيش التونسي والجيش المصري منذ اللحظة الأولى إلى ميادين وساحات مدن كل من تونس ومصر، وإتخذا مواقف حازمة فحواها «إنّ حكم بن علي ومبارك خط أحمر، وعليه يحظّر كل أنواع التجمّع والتظاهر والتجمهر ونشر الفوضى وتهديد السلم والأمن القومي والتعرّض للمصالح العامة ومصالح المواطنين والأجانب للخطر.. الخ»، ألن يكون الحديث عن أيّ ربيع عربي مجرّد أضغاث أحلام؟ ماذا يعني ذلك؟.
وإنّنا إذ نطرح هذه التساؤلات فذلك ليس بقصد الإجابة عليها، وإنّما للذهاب مباشرة باتجاه خط نار الدقائق الأولى للثورة التونسية، وهي الدقائق التي رسمت وبسرعة البرق النتيجة الحتمية لهذه الثورة، ففي الدقائق الأولى التي لم يتحرّك خلالها أكثر من بضعة عشرات من شبّان وشابات تونس كانت قيادة الجيش التونسي مصرّة على إبراز وتظهير مناخ عام في البلاد مؤدّاه أنّ مهمة الجيش التونسي هي الدفاع عن حدود تونس وسيادتها وليس من ضمنها أيّة علاقة في الإشتباك القائم بين جماهير الشعب التونسي وسيّد قصر قرطاج، فكان هذا المناخ ـــــ الرسالة أكثر من كاف كي يتجرّأ الشعب التونسي على كسر حاجز الهلع والخوف المستوطن في أنفس وأفئدة التونسيين منذ سنوات.
وبالطبع هذا مناخ حق أريد به باطل، والباطل هنا ليس السيِّئ أو الحرام، وإنّما هو فكّ ارتباط حصل وللمرّة الأولى بين الرئيس التونسي ورئاسة أركان جيشه. لكن من وقف وراء فكّ الإرتباط هذا؟ ولمنْ أتت كلمة السرّ بالخصوص؟ ومن أرسلها أصلاً؟.
أيّاً يكن الجواب على هذه الأسئلة التي يكذب من يدّعي امتلاك أجوبتها الشافية، تبقى حيادية الجيش التونسي هي من ألهب الثورة، وما البوعزيزي إلّا فتيلها.
ربّما نعثر على الجواب عند رئيس أركان القوّات المسلّحة المصرية الفريق سامي عنان الذي كان في زيارة لواشنطن قبيل إندلاع الثورة في مصر ببضعة أيّام، وهذه الزيارة تعفينا من تكرار سرد مسيرة الثورة المصرية من ألفها إلى يائها. غير أنّ هذه الزيارة لا تعفينا من البحث عن «نصف الجواب للسؤال السابق» للصديق السائل أعلاه.
أمّا النصف الثاني من الإجابة لصديقنا السائل فينهض على مجموعة من المحاور والمرتكزات التي لا يمكن تجاهلها والتغاضي عنها أو القفز من فوقها، وإنّ مناقشتها بشكل موضوعي وسليم تتطلّب أول ما تتطلّبه، نزع وإزالة كل الرواسب والأفكار التي عملت الفضائيات على رميها في سلّة أذهاننا التي تعرّضت لغزو وقذف إعلامي مركّز من قبل آلة إعلامية إعلانيّة ضخمة منتشرة على امتداد الكرة الأرضية.
وأنا بدوري سأكون موضوعياً وأنطلق معكم طواعية وأقول نعم، إنَّ معمّر القذّافي عاش وحكم ومات ديكتاتوراً. فهكذا يستوي النقاش ونكون كلّنا على مسافة واحدة للحكم على ما حصل في ليبيا، وأسماه البعض ثورة.
لمن لا يعلم، فإنّ الذي حكم ليبيا وطيلة أربعة عقود من الزمن هو مروحة تحالف قبائلي متغيّرة حسب الظروف، لكنّ الثابت فيها أنّ القذّافي هو دوماً قائد التحالف القبائلي الأقوى والأكبر، وعندما نتحدّث عن تحالف قبائلي فيجب أنْ يتجه ذهننا بشكل تلقائي إلى أنّ هناك مجتمعاً منقسماً بين تحالفين، بغض النظر عن حجم وقوة كل منهما، وفي الحسابات القبائلية تبدأ حسابات نقاط القوة والضعف من العدد قبل العدّة والعتاد.
وعندما نعود إلى سؤال صديقنا حول سبب عدم افتراش الليبيين لمدنهم وقراهم وساحاتهم للمطالبة برحيل نظام القذّافي، علينا تركيز البحث والبدء في العدّ من نصف الشعب الليبي بالحدّ الأقصى، على اعتبار أنّ نصف الشعب الليبي الآخر هو مؤيّد لمعمّر القذّافي، ليس لأنّه مؤمن به وبأطروحاته السياسية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها فحسب، وإنّما لأنّ هذا النصف هو جزء لا يتجزّأ من كلّ يقوده القذّافي بصفته متربّعاً على عرش تحالف قبائلي عريض يمتدّ من شرق ليبيا إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، ناهيك عن وسطها الذي يُشكِّل واسطة عقد حكم وسلطة وقوّة ونفوذ معمّر القذّافي. في الحالة الليبية اذن، علينا بناء حساباتنا بالإنطلاق من نصف عدد السكان في الحدّ الأقصى.
أمّا في الحالتين التونسية والمصرية، فالإشكالية الديموغرافية مختلفة اختلافاً جذرياً عمّا هو الحال في ليبيا. وإذا ما أردنا شرح وتشريح النسق الديموغرافي في كل من تونس وليبيا كتوطئة ضرورية لتبيان حالة التمايز الليبية في هذا المجال، نقول:
ممّا لا شك فيه أنّ المجتمع العربي ككل مشكّل من مجموعة كبيرة من القبائل والعشائر والعائلات الكبيرة وهي إنْ بدأت بقريش لكنّها لا تنتهي بها، لكنّ العرب في معظم البلاد العربية خرجوا من إطارهم القبلي إلى حدّ ما في علاقاتهم وتفاعلاتهم بعضهم مع بعض ومن ثمّ مع الدولة بوصفها الإطار المنظّم لنسق العلاقات بين المواطنين.
لكنّ ليبيا شذّت عن هذا الواقع، حيث بقي العامل القبلي هو العامل الرئيس المتحكِّم بالعلاقات بين أبناء القبيلة الواحدة وبين علاقات القبيلة مع القبائل الأخرى، والقبيلة في ليبيا بهذا المعنى هي النواة الأولى في التقسيم الإجتماعي وهي حجر الأساس الذي تُبنى عليه الهياكل السياسية والإدارية والأمنية والإقتصادية للدولة الليبية من رأس الهرم وحتى القاعدة.
ما نود قوله في هذا الصدد هو أنّ الرابط بين الليبي وقبيلته هو رابط قوي ومتين وشديد ومن الصعب فكّه، لذلك نجد أنّ بعض المفاهيم والظواهر الإجتماعية والعادات والتقاليد العربية البدوية الضاربة في التاريخ ما زالت راسخة في المجتمع الليبي، فالثأر مثلاً يرتقي لدى القبائل الليبية إلى مرتبة شبه الواجب الشرعي، ويكاد يشكل المعيار الأقوى لرجولة ابن القبيلة الليبية المدين بثأر.
وهكذا فإنّ الإنطلاق المُلزم للواقع المجتمعي لا يجب أنْ يدع أي مجال للشك عند الحديث عن مسألتين هامتين:
أمّا الأولى، فتتمثّل بأنّ قبيلة القذاذفة التي ينتمي إليها الزعيم الليبي معمّر القذّافي، رغم قلّة عدد ابنائها مقارنة مع القبائل الكبرى، الا انها من القبائل الوازنة بفعل تحالفها خصوصاً مع قبيلة ورفلة.
أمّا الثانية، فتتجسّد بحقيقة لا بدّ من إبرازها، وهي أنّ الزعيم الليبي ومنذ عام 1975 وهو العام الذي تعرّض فيه لمحاولة إنقلاب فاشلة قادها عمر المحيشي وكان هدفها ينحصر فقط في الإطاحة بالقذّافي وتركيبته الحاكمة ممثّلة بحركة الضباط الأحرار، وهي العملية التي أحدثت ارتدادات إيجابية على القذّافي تمثّلت ببروز التفاف قبائلي حاضن وداعم له، قد استثمر هذا الإلتفاف القبائلي في تدعيم أوتاد خيمته، وعمل من خلال هذا الإستثمار الإيجابي على إحداث تزاوج بين سلطة الحكم السياسية والعسكرية والمالية التي يمثّل وبين السلطة الإجتماعية ممثّلة بالقبائل التي كما أسلفنا ثبّتت أقدامها تدرُّجاً فأصبحت مكوِّناَ أساسياً من مكوِّنات حكم القذّافي وقوّة سيطرته ونفوذه.
هذا التزاوج انفرد به القذّافي دون غيره من الحكّام العرب، على اعتبار أنّ هؤلاء اعتمدوا في سلطتهم على القوة العسكرية دون الاجتماعية، لذلك نعود ونقول إنّه أكثر من طبيعي أنْ يخرج أكثر من ثمانين بالمئة من الشعب التونسي ومثلهم من الشعب المصري ليثوروا ضد نظامي بن علي ومبارك، لكن من المستحيل وغير الطبيعي أنْ يثور أكثر من أربعين في المئة في أحسن الأحوال من الشعب الليبي ضد معمّر القذّافي، لذلك كان عليهم أنْ يخرجوا مسلّحين، فالديموغرافيا تبتلع الديموغرافيا، أمّا السلاح فلا يبتلع السلاح، ليس لأنّه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وإنّما لأنّه لا صوت يعلو فوق صوت معمّر القذّافي وفق أبجديات الديمقراطية القبلية.
هنا لا بدّ من الإنطلاق من ذلك للقول بأنّ الفضائيات وخصوصاً العربية منها، قد تعمّدت تسطيح الوقائع وتجهيل الحقائق عبر إبراز الصراع وشخصنته وتصويره على أنّه بين الشعب الليبي من جهة والقذّافي وأبنائه وعشيرته من جهة أخرى.
فكيف يكون الحال عندما يمثّل تحالف قبائلي مجتمعي أكثر من نصف عدد سكان البلاد، ويمتلك مقومات الحكم والسلطة والقوة؟، عند ذلك من المستحيل وبالنظر لميزان القوة المختل أنْ يواجه النصف الآخر الضعيف والمحكوم النصف الحاكم والأقوى بآليات تقليدية ويلتزم بقواعد اللعبة العادية.
من سمع يوماً أنّ قبائل «التوتسي» في راوندا الإفريقية تظاهرت ضد قبائل «الهوتو»، أو أنّ قبائل الهوتو تظاهرت ضد قبائل التوتسي؟ فلو كان الأمر يعالج بالتظاهر السلمي المدني لما سمعنا أنّ في إفريقيا دولة إسمها راوندا، فهذه الدولة لم يذع صيتها إلّا على خلفية التنازع القبلي والمجازر الدموية بين قبيلتيها الشهيرتين.
ولو لم يكن الهنود الحمر سكان أميركا الأصليين، يشكّلون تكتلاً قبلياً كبيراً، لما زخرت قصص التاريخ بذكر مآسي حروب الإبادة التي تعرّضوا لها من قبل الأميركيين.
ولولا سيطرة الروح القبلية على كل اعتبار آخر، لما شاهدنا سيف الإسلام القذّافي في أوّل خطاب له بُعيد اكتمال تمرّد المنطقة الشرقية، وهو يتبرّأ من كل أطروحاته السابقة من مشروع ليبيا الغد إلى نغمة الإصلاح والتطوير والشفافية ومحاربة الفساد والقطط السمان والدستور ويضرب بهم عرض الحائط ويرميهم في مزبلة الصراع القبلي على السلطة. ففي ذلك الخطاب كان سيف الإسلام ولأوّل مرة، هو الإبن السياسي لأبيه معمّر القذّافي.
المصدر : http://alichendeb.blogspot.com/2013/04/blog-post_2210.html
الأحد مايو 31, 2015 3:20 pm من طرف الفارس الفارس
» الإتحاد الأوربي و ليبيا
الأحد مايو 31, 2015 3:15 pm من طرف الفارس الفارس
» مدينة سرت الليبية و الجفرة و مناطق الوسط تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش )
الأحد مايو 31, 2015 3:02 pm من طرف الفارس الفارس
» سرت و نقص البنزين
السبت مايو 16, 2015 2:28 pm من طرف الفارس الفارس
» حديث اخضر اللثام للمنظمات الحقوقية عن مايحدث في طرابلس و ورشفانة
الخميس أبريل 30, 2015 8:24 am من طرف عائشة القذافي
» الدكتور مصطفى الزائدي - Dr.Mustafa El Zaidi
الأربعاء أبريل 29, 2015 7:54 am من طرف عائشة القذافي
» بقلم الأستاذ : هشام عراب .
الأربعاء مارس 18, 2015 10:43 am من طرف عائشة القذافي
» نبوءة القذافي يحقّقها آل فبراير، ويقرّ بها العالم ،،
الأربعاء مارس 04, 2015 8:53 pm من طرف عائشة القذافي
» توفيق عكاشة يهدد التنظيم و يطالب أهالي سرت بعدم الذهاب للجامعة
الثلاثاء مارس 03, 2015 10:34 pm من طرف عائشة القذافي
» منظمة ضحايا لحقوق الانسان Victims Organization for Human Rights
الأربعاء يناير 21, 2015 8:49 am من طرف عائشة القذافي
» الدكتور مصطفى الزائدي - Dr.Mustafa El Zaidi
الأربعاء يناير 21, 2015 8:30 am من طرف عائشة القذافي
» معمر القذافي علي قيد الحياة بالدليل القاطع
الإثنين ديسمبر 08, 2014 8:24 pm من طرف الفارس الفارس