وإذا الثورة سُئلت
بُعيد انتهاء ثورة تونس ونجاحها، وبدء ترنّح نظام الرئيس المصري حسني مبارك، انتقلت عدوى التغيير إلى ليبيا من خلال دعوات ضجّت بها مواقع الفيسبوك التي حدّدت تاريخ 17 فبراير موعداً للتظاهر، وهو اليوم الذي شهدت فيه مدينة بنغازي قبل أربع سنوات، تظاهرة تضامنية مع النبي محمد (ص) واستنكارية لتصريحات وزير إيطالي أعلن فيها دعمه للرسام الدانماركي صاحب الرسوم المُسيئة للرسول، وكان قد سقط يومها عدد من القتلى برصاص الشرطة الليبية أثناء محاولتها منع المتظاهرين من اقتحام القنصلية الإيطالية في بنغازي، فأقيل على خلفيتها أمين الأمن العام الليبي (أي وزير الداخلية) من منصبه، في خطوة عبّرت عن رفض الزعيم الليبي لأسلوب المعالجات الأمنية وسقوط قتلى وجرحى بين المتظاهرين.
لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه بقوّة هو: كيف تصرّفت القيادة الليبية حيال تظاهرات بنغازي، خصوصاً بعد المواقف اللافتة التي اتّخذها العقيد القذّافي دعماً للرئيسين بن علي ومبارك، وتسفيهه لثورتي تونس ومصر، فهل أنّ القيادة الليبية استوعبت الدرسين التونسي والمصري، فكانت بالتالي أكثر حكمة في إدارة الأزمة التي اندلعت شرارتها من مدينتي البيضاء / بنغازي في 15 17 فبراير/ شباط 2011، أمْ أنّ القذّافي لم يملك سوى تقليد نظيريه التونسي والمصري من خلال اعتماده أسلوب المعالجات الأمنية القمعية؟.
لكن ماذا حصل يوم السابع عشر من فبراير وكيف تصرّفت الدولة؟.
إذا كانت الثورة التونسية قد بدأت شرارتها الأولى بحركة تضامنية قام بها الشباب التونسي مع جسد محمد البوعزيزي المحترق؛ وإذا كانت الثورة المصرية قد اندلعت شرارتها الأولى بوقفة تضامنية رثائية قام بها الشباب المصري مع جثّة «الشهيد» خالد سعيد، فإنّ الثورة الليبية قد اندلعت شرارتها الأولى، بوقفة تضامنية قام بها شباب ليبي مع النبي محمّد (ص)، ضد رسام كاريكاتوري دانماركي تبنّاه وزير إيطالي. وقد تمّ التعبير عن هذه الوقفة التضامنية مع النبي محمّد (ص)، باعتصام بدا للوهلة الأولى اعتصاماً سلمياً، فمتى حصل هذا الإعتصام ـــــ الشرارة وماذا حدث خلاله؟.
كما هو معلوم للجميع، بأنّ تظاهرة سلمية محدودة العدد تضمّ أهالي ضحايا حادثة القنصلية الإيطالية التي وقعت عام 2006 مع محاميهم بالإضافة إلى بعض أهالي معتقلي سجن أبوسليم نفّذوا اعتصاماً أمام محكمة بنغازي، تماماً كما تنصّ الدعوة المنتشرة منذ أسابيع على مواقع الفيسبوك.
لكنّ التظاهرة ـــــ الإعتصام السلمي، والذي كان يُراقب عن كثب، تمّ التعامل معه بخشونة من قبل الشرطة الليبية، الأمر الذي استفزّ المشاركين في الإعتصام الذين التفّ حولهم عدد آخر من المواطنين، وهو ما ضخّم من هواجس السلطة المحليّة حتى تفاقمت الأمور وأخذ الشارع يموج والفوضى تدبّ، وتولّد شعور عارم لدى الدولة بأنّ الوضع أخذ يفلت من تحت قبضتها، فما كان من الزعيم الليبي إلّا أنْ أوفد بالإضافة إلى رئيس الإستخبارات العسكرية العميد عبد الله السنوسي، نجله العقيد الساعدي خلافاً لرغبة السّنوسي، بهدف مفاوضة المحتجّين وتهدئة الأمور، لكنّ إيفاد القذّافي لنجله الساعدي فاقم بدوره من نسبة التوتر وتدهور الأوضاع بشكل دراماتيكي وغير مسبوق، كما شكّل عنصر استفزاز إضافي للمحتجّين الغاضبين الذين كان بينهم من اعتبر أنّه كان من الأجدى بالقذّافي إيفاد مسؤول كبير في الدولة الليبية مثل أمين اللجنة الشعبية العامة البغدادي المحمودي أو أمين مؤتمر الشعب العام محمد الزّوي أو منسِّق عام القيادات الشعبية الإجتماعية اللواء سيّد قذّاف الدّم وليس «إبنه الساعدي»، لأنّ هناك من فسّر إيفاد القذّافي لإبنه على اساس أن القذّافي يتعاطى مع ليبيا والليبيين وكأنّهم بــــ «مثابة» الملك الخاص، ما دفع الغاضبين إلى اعتماد خيار العنف فقط لا غير وسيلة للإنفكاك من حالة القمع والقهر المستوطنة في نفوسهم منذ سنوات طويلة، الأمر الذي دفع السّاعدي القذّافي إلى مغادرة بنغازي بأعجوبة والفرار عبر طائرة أقلّته إلى طرابلس.
وهكذا تسارعت وتيرة الأحداث وتمّ الهجوم على مقر «كتيبة الفضيل أبو عمر» وهي إحدى الكتائب العسكرية الأمنية المعنية بتأمين مدينة بنغازي والتابعة مباشرة للعقيد القذّافي، وتمّ الإستيلاء على أسلحتها وقد حصل الأمر نفسه في بقية مدن الشرق الليبي.
أمام كل هذه الحقائق والمعطيات وبعيداً عن ثورتي تونس ومصر، هناك سؤالان مهمّان للغاية يفرضان نفسيهما بقوة وهما:
هل كانت السلطات الليبية على علم مسبق بأمر هذا الإعتصام؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب أو بالنفي، فما هي الآلية الرسمية المعتمدة التي يُنظّم بموجبها هكذا اعتصام في دولة الجماهيرية الليبية؟.
هل فعلاً إنّ شخص السّاعدي القذّافي هو من وتّر الأجواء وضاعف من درجة الإستفزاز لدى أهالي بنغازي؟ بمعنى آخر لو أنّ القيادة الليبية أرسلت شخصاً آخر يتمتع بقبول اجتماعي، فهل كان سيتمكّن من معالجة الموقف وتطويقه ومنع تفاقمه؟.
في الإجابة على هذين السؤالين يرتسم المشهد الأقرب إلى الحقيقة لسيناريو الحراك الشعبي الذي شهدته بنغازي.
تبدأ الإجابة على السؤال الأول بحقيقة نظرية تقول بأنّ ليبيا ربّما هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يمكن أنْ يحصل فيها حراك شعبي لا يتوافق مع النظام، وهنا نتحدث عن النظام بمعنييه الضيّق والواسع.
أمّا المعنى الضيّق فالمقصود به السلطة والحكم، وأمّا المعنى الواسع فالمقصود به النظام العام للدولة، وبما أنّ الشعب هو الحاكم والمحكوم ولو نظرياً، فضدّ من التظاهر اذن؟.
في الحقيقة كان التظاهر هذه المرّة ضدّ أحد ما، والمناسبة تعترف بذلك، فالحملة التعبوية التي نظّمها ليبيون على صفحات الفيسبوك وتحديدهم يوم 17 فبراير 2011، موعداً وتاريخاً للنزول إلى الشارع، إنّما كانت بهدف إحياء ذكرى ليبيين قُتلوا، برصاص قوات أمن نظام معمّر القذّافي.
التظاهرة هي ضد معمّر القذّافي ونظامه إذن، وهو ما يعني أنّ المشكلة واقعة لا محالة بمجرد نزول المعتصمين إلى ساحة الإعتصام.
وبهذا المعنى، فإنّ المعتصمين ذاهبون إلى نبش القبور، وبهذا المعنى أيضاً كان النظام الليبي ذاهباً إلى حفر القبور، ذلك أنّ تصميم المخطّطين والمنفّذين بالنزول إلى الشارع يوم 17 فبراير جاء بــــ «مثابة» تحدٍّ وضرب عَرْضَ الحائط بكلام توجّه به معمّر القذّافي إلى الليبيين قبل نحو شهرين عندما غمز من قناة ثورة تونس. فإلى ماذا رمى القذّافي في كلامه؟ وكيف ضرب منظِّمو الإعتصام في بنغازي كلام الزعيم الليبي عرض الحائط؟ وماذا قال القذافي عندما غمز؟.
إنّ أبرز ما قاله القذّافي في ذلك اليوم هو التالي:
«إنّ تونس تعيش في رعب وتحوّلت إلى دولة عصابات ونهب وسلب. خسرتم خسارة كبيرة، لا يمكن إرجاعها، فالذي ابنه مات لا يمكن أنْ يعود في الدنيا، الذين ماتوا لا يمكن أنْ يعودوا. إنّ تونس تعيش الآن في خوف، العائلات يمكن أنْ تُداهم وتُذبح في غرف النوم، والمواطن في الشارع يُقتل وكأنّها الثورة البلشفية أو الثورة الأميركية. إنّ الفوضى العارمة التي تجتاح المدن التونسية ووجود العصابات الملثّمة يمكن أنْ تفقد تونس المكانة التي وصلت إليها والنجاحات التي حقّقتها».
يبدو واضحاً من خلال هذه العبارات أنّ القذّافي قرّر مخاطبة الليبيين بالتوانسة، ويبدو واضحا أيضاً أنّه وضع مواطنيه بين خيارين لا ثالث لهما: إمّا التراجع عن أي مخطّط دُبِّر في ليل، وإمّا المواجهة المسلّحة التي أياً يكن المنتصر فيها، ستكون نتائجها متمثلة بالفوضى الخطيرة والموت المفاجئ واللااستقرار حتى إشعار لم يشأ القذّافي تحديد سقفه الزمني.
وتمثّلت التطبيقات العملية لمقرّرات القذّافي في محاولة إداراته الأمنية العمل السريع على فكّ صواعق تفجُّر الحركة الإحتجاجية المقرّرة يوم السابع عشر من فبراير، حيث نفذت الأجهزة المختصة سلسلة من الإجراءات الأمنية الإستباقية التي استهدفت توقيف من تعتقد الدولة وقوفهم خلف احتجاجات 17 فبراير ومنهم محامي أهالي معتقلي سجن أبوسليم فتحي تربل، وذلك بهدف شلّ الذراع اليُمنى للحركة الإحتجاجية عبر التفاوض معها لإلغاء الحراك الإحتجاجي، فجاء توقيف المحامي فتحي تربل ليصبّ الزيت على نار الحركة الإحتجاجية المرتقبة. ففيما كانت إجراءات السلطة استباقية بهدف إلغاء الإحتجاج فقد سرّع اعتقال تربل من توقيت الإحتجاج الذي انطلق قبل يومين من موعده المقرّر أي في الخامس عشر من فبراير والسادس عشر منه، حيث أطلقت الأجهزة الأمنية سراح هذا الرجل، الأمر الذي فسّره المحتجّون على اساس أنه تراجع وتراخي القبضة الأمنية وتضعضع هيبة النظام، ما دفع بالمحتجّين إلى تزخيم حراكهم الذي استشرت تداعياته إلى غير مدينة ليبية.
هذا الإنتشار الواسع لمساحة الإعتصام في مدن ليبية عدّة منح الواقفين وراء حراك بنغازي جرعة معنوية كافية لرفض التفاوض مع أيّ موفد من القذّافي إليهم. ونحن إذْ نستخدم كلمة «الواقفون» وراء الحراك الإحتجاجي فذلك بقصد الفصل بين أسر شهداء حادثة القنصلية الإيطالية وبين من استثمر على دماء هؤلاء الشهداء وربط قضيتهم بضحايا سجن أبوسليم، فلقد أثبتت الأحداث فيما بعد بأنّ هناك مطبخاً خطيراً يُسيِّر الأحداث ويستثمر فيها بامتياز متّخِذاً من الشرق الليبي عامة ومدينة بنغازي خاصة قاعدة خلفية ودينوغرافية لتحركاته وخططه وكمائنه سيّما وأنّ أكثرية ضحايا سجن أبوسليم هم من «الإسلاميين» الذين لطالما تربّصوا بالقذّافي شراً؛ والذين لطالما انتظروا ساعة الصفر التي دوّت صفارات إنذارها في بروكسل حيث مقرّ حلف شمال الأطلسي.
وبالعودة إلى حادثة القنصلية الإيطالية فنجد أنّه من المفيد والضروري تسليط الأضواء على هذه القضية بقصد توضيحها، فالذي يعرفه الجميع أنّ أجهزة الأمن الليبية أطلقت النار على متظاهرين ليبيين غاضبين من تصريحات وزير إيطالي دافع فيها عن رسّام الصور الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (ص)، لكنّ الذي لا يعرفه الجميع، هو أنّ هذه التظاهرة، انطلقت مع تظاهرة مماثلة لها في العاصمة الليبية طرابلس يوم 17 فبراير شباط 2006، وأنّ الدعوة إلى التظاهرتين قد تمّت من قبل الدولة الليبية ممثّلة بالهيئة العامة للأوقاف وشؤون الزكاة، حيث تولّى أئمة وخطباء المساجد التابعين للأوقاف حثّ الناس على الخروج في هذه التظاهرة انتصاراً للنبي محمّد (ص) واستنكاراً للرسوم الكاريكاتورية المسيئة إليه، فضلاً عن استنكار تصريحات الوزير الإيطالي «كاريجولي»، وقد لخصت القيادة الليبية هذه التظاهرات بمذكرة استنكار رسمية ضد الحكومة الإيطالية التي استجابت لضغوط القيادة الليبية بالاعتذار عن تصريحات الوزير الإيطالي بالإضافة إلى إقالته.
لكنّ الحماسة والإندفاعة التي اتّسم متظاهرو بنغازي بها، والذين تسلّق عدد منهم سور القنصلية الإيطالية في بنغازي فأحرقوا علمها وبعض أجزائها، الأمر الذي دفع بقوات حفظ النظام ومكافحة الشغب المولجة بحماية المصالح الأجنبية والممتلكات العامة والخاصة إلى إطلاق النار بهدف إبعاد المتظاهرين عن العبث بالقنصلية ما أدّى إلى سقوط 14 شهيداً، هم بالمناسبة من الأسر والعائلات المعروفة بولائها للقذّافي، وقد عمدت الدولة الليبية يومها إلى محاسبة المسؤولين الأمنيين عن الحادثة وإلى إقالة أمين الأمن العام أي (وزير الداخلية) آنذاك نصر المبروك بالإضافة إلى دفع الديّات لأسر الشهداء وطيّ هذا الملف نهائياً وإخراجه من دائرة الإستثمار السلبي.
المصدر : http://alichendeb.blogspot.com/2013/04/blog-post_2210.html
بُعيد انتهاء ثورة تونس ونجاحها، وبدء ترنّح نظام الرئيس المصري حسني مبارك، انتقلت عدوى التغيير إلى ليبيا من خلال دعوات ضجّت بها مواقع الفيسبوك التي حدّدت تاريخ 17 فبراير موعداً للتظاهر، وهو اليوم الذي شهدت فيه مدينة بنغازي قبل أربع سنوات، تظاهرة تضامنية مع النبي محمد (ص) واستنكارية لتصريحات وزير إيطالي أعلن فيها دعمه للرسام الدانماركي صاحب الرسوم المُسيئة للرسول، وكان قد سقط يومها عدد من القتلى برصاص الشرطة الليبية أثناء محاولتها منع المتظاهرين من اقتحام القنصلية الإيطالية في بنغازي، فأقيل على خلفيتها أمين الأمن العام الليبي (أي وزير الداخلية) من منصبه، في خطوة عبّرت عن رفض الزعيم الليبي لأسلوب المعالجات الأمنية وسقوط قتلى وجرحى بين المتظاهرين.
لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه بقوّة هو: كيف تصرّفت القيادة الليبية حيال تظاهرات بنغازي، خصوصاً بعد المواقف اللافتة التي اتّخذها العقيد القذّافي دعماً للرئيسين بن علي ومبارك، وتسفيهه لثورتي تونس ومصر، فهل أنّ القيادة الليبية استوعبت الدرسين التونسي والمصري، فكانت بالتالي أكثر حكمة في إدارة الأزمة التي اندلعت شرارتها من مدينتي البيضاء / بنغازي في 15 17 فبراير/ شباط 2011، أمْ أنّ القذّافي لم يملك سوى تقليد نظيريه التونسي والمصري من خلال اعتماده أسلوب المعالجات الأمنية القمعية؟.
لكن ماذا حصل يوم السابع عشر من فبراير وكيف تصرّفت الدولة؟.
إذا كانت الثورة التونسية قد بدأت شرارتها الأولى بحركة تضامنية قام بها الشباب التونسي مع جسد محمد البوعزيزي المحترق؛ وإذا كانت الثورة المصرية قد اندلعت شرارتها الأولى بوقفة تضامنية رثائية قام بها الشباب المصري مع جثّة «الشهيد» خالد سعيد، فإنّ الثورة الليبية قد اندلعت شرارتها الأولى، بوقفة تضامنية قام بها شباب ليبي مع النبي محمّد (ص)، ضد رسام كاريكاتوري دانماركي تبنّاه وزير إيطالي. وقد تمّ التعبير عن هذه الوقفة التضامنية مع النبي محمّد (ص)، باعتصام بدا للوهلة الأولى اعتصاماً سلمياً، فمتى حصل هذا الإعتصام ـــــ الشرارة وماذا حدث خلاله؟.
كما هو معلوم للجميع، بأنّ تظاهرة سلمية محدودة العدد تضمّ أهالي ضحايا حادثة القنصلية الإيطالية التي وقعت عام 2006 مع محاميهم بالإضافة إلى بعض أهالي معتقلي سجن أبوسليم نفّذوا اعتصاماً أمام محكمة بنغازي، تماماً كما تنصّ الدعوة المنتشرة منذ أسابيع على مواقع الفيسبوك.
لكنّ التظاهرة ـــــ الإعتصام السلمي، والذي كان يُراقب عن كثب، تمّ التعامل معه بخشونة من قبل الشرطة الليبية، الأمر الذي استفزّ المشاركين في الإعتصام الذين التفّ حولهم عدد آخر من المواطنين، وهو ما ضخّم من هواجس السلطة المحليّة حتى تفاقمت الأمور وأخذ الشارع يموج والفوضى تدبّ، وتولّد شعور عارم لدى الدولة بأنّ الوضع أخذ يفلت من تحت قبضتها، فما كان من الزعيم الليبي إلّا أنْ أوفد بالإضافة إلى رئيس الإستخبارات العسكرية العميد عبد الله السنوسي، نجله العقيد الساعدي خلافاً لرغبة السّنوسي، بهدف مفاوضة المحتجّين وتهدئة الأمور، لكنّ إيفاد القذّافي لنجله الساعدي فاقم بدوره من نسبة التوتر وتدهور الأوضاع بشكل دراماتيكي وغير مسبوق، كما شكّل عنصر استفزاز إضافي للمحتجّين الغاضبين الذين كان بينهم من اعتبر أنّه كان من الأجدى بالقذّافي إيفاد مسؤول كبير في الدولة الليبية مثل أمين اللجنة الشعبية العامة البغدادي المحمودي أو أمين مؤتمر الشعب العام محمد الزّوي أو منسِّق عام القيادات الشعبية الإجتماعية اللواء سيّد قذّاف الدّم وليس «إبنه الساعدي»، لأنّ هناك من فسّر إيفاد القذّافي لإبنه على اساس أن القذّافي يتعاطى مع ليبيا والليبيين وكأنّهم بــــ «مثابة» الملك الخاص، ما دفع الغاضبين إلى اعتماد خيار العنف فقط لا غير وسيلة للإنفكاك من حالة القمع والقهر المستوطنة في نفوسهم منذ سنوات طويلة، الأمر الذي دفع السّاعدي القذّافي إلى مغادرة بنغازي بأعجوبة والفرار عبر طائرة أقلّته إلى طرابلس.
وهكذا تسارعت وتيرة الأحداث وتمّ الهجوم على مقر «كتيبة الفضيل أبو عمر» وهي إحدى الكتائب العسكرية الأمنية المعنية بتأمين مدينة بنغازي والتابعة مباشرة للعقيد القذّافي، وتمّ الإستيلاء على أسلحتها وقد حصل الأمر نفسه في بقية مدن الشرق الليبي.
أمام كل هذه الحقائق والمعطيات وبعيداً عن ثورتي تونس ومصر، هناك سؤالان مهمّان للغاية يفرضان نفسيهما بقوة وهما:
هل كانت السلطات الليبية على علم مسبق بأمر هذا الإعتصام؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب أو بالنفي، فما هي الآلية الرسمية المعتمدة التي يُنظّم بموجبها هكذا اعتصام في دولة الجماهيرية الليبية؟.
هل فعلاً إنّ شخص السّاعدي القذّافي هو من وتّر الأجواء وضاعف من درجة الإستفزاز لدى أهالي بنغازي؟ بمعنى آخر لو أنّ القيادة الليبية أرسلت شخصاً آخر يتمتع بقبول اجتماعي، فهل كان سيتمكّن من معالجة الموقف وتطويقه ومنع تفاقمه؟.
في الإجابة على هذين السؤالين يرتسم المشهد الأقرب إلى الحقيقة لسيناريو الحراك الشعبي الذي شهدته بنغازي.
تبدأ الإجابة على السؤال الأول بحقيقة نظرية تقول بأنّ ليبيا ربّما هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يمكن أنْ يحصل فيها حراك شعبي لا يتوافق مع النظام، وهنا نتحدث عن النظام بمعنييه الضيّق والواسع.
أمّا المعنى الضيّق فالمقصود به السلطة والحكم، وأمّا المعنى الواسع فالمقصود به النظام العام للدولة، وبما أنّ الشعب هو الحاكم والمحكوم ولو نظرياً، فضدّ من التظاهر اذن؟.
في الحقيقة كان التظاهر هذه المرّة ضدّ أحد ما، والمناسبة تعترف بذلك، فالحملة التعبوية التي نظّمها ليبيون على صفحات الفيسبوك وتحديدهم يوم 17 فبراير 2011، موعداً وتاريخاً للنزول إلى الشارع، إنّما كانت بهدف إحياء ذكرى ليبيين قُتلوا، برصاص قوات أمن نظام معمّر القذّافي.
التظاهرة هي ضد معمّر القذّافي ونظامه إذن، وهو ما يعني أنّ المشكلة واقعة لا محالة بمجرد نزول المعتصمين إلى ساحة الإعتصام.
وبهذا المعنى، فإنّ المعتصمين ذاهبون إلى نبش القبور، وبهذا المعنى أيضاً كان النظام الليبي ذاهباً إلى حفر القبور، ذلك أنّ تصميم المخطّطين والمنفّذين بالنزول إلى الشارع يوم 17 فبراير جاء بــــ «مثابة» تحدٍّ وضرب عَرْضَ الحائط بكلام توجّه به معمّر القذّافي إلى الليبيين قبل نحو شهرين عندما غمز من قناة ثورة تونس. فإلى ماذا رمى القذّافي في كلامه؟ وكيف ضرب منظِّمو الإعتصام في بنغازي كلام الزعيم الليبي عرض الحائط؟ وماذا قال القذافي عندما غمز؟.
إنّ أبرز ما قاله القذّافي في ذلك اليوم هو التالي:
«إنّ تونس تعيش في رعب وتحوّلت إلى دولة عصابات ونهب وسلب. خسرتم خسارة كبيرة، لا يمكن إرجاعها، فالذي ابنه مات لا يمكن أنْ يعود في الدنيا، الذين ماتوا لا يمكن أنْ يعودوا. إنّ تونس تعيش الآن في خوف، العائلات يمكن أنْ تُداهم وتُذبح في غرف النوم، والمواطن في الشارع يُقتل وكأنّها الثورة البلشفية أو الثورة الأميركية. إنّ الفوضى العارمة التي تجتاح المدن التونسية ووجود العصابات الملثّمة يمكن أنْ تفقد تونس المكانة التي وصلت إليها والنجاحات التي حقّقتها».
يبدو واضحاً من خلال هذه العبارات أنّ القذّافي قرّر مخاطبة الليبيين بالتوانسة، ويبدو واضحا أيضاً أنّه وضع مواطنيه بين خيارين لا ثالث لهما: إمّا التراجع عن أي مخطّط دُبِّر في ليل، وإمّا المواجهة المسلّحة التي أياً يكن المنتصر فيها، ستكون نتائجها متمثلة بالفوضى الخطيرة والموت المفاجئ واللااستقرار حتى إشعار لم يشأ القذّافي تحديد سقفه الزمني.
وتمثّلت التطبيقات العملية لمقرّرات القذّافي في محاولة إداراته الأمنية العمل السريع على فكّ صواعق تفجُّر الحركة الإحتجاجية المقرّرة يوم السابع عشر من فبراير، حيث نفذت الأجهزة المختصة سلسلة من الإجراءات الأمنية الإستباقية التي استهدفت توقيف من تعتقد الدولة وقوفهم خلف احتجاجات 17 فبراير ومنهم محامي أهالي معتقلي سجن أبوسليم فتحي تربل، وذلك بهدف شلّ الذراع اليُمنى للحركة الإحتجاجية عبر التفاوض معها لإلغاء الحراك الإحتجاجي، فجاء توقيف المحامي فتحي تربل ليصبّ الزيت على نار الحركة الإحتجاجية المرتقبة. ففيما كانت إجراءات السلطة استباقية بهدف إلغاء الإحتجاج فقد سرّع اعتقال تربل من توقيت الإحتجاج الذي انطلق قبل يومين من موعده المقرّر أي في الخامس عشر من فبراير والسادس عشر منه، حيث أطلقت الأجهزة الأمنية سراح هذا الرجل، الأمر الذي فسّره المحتجّون على اساس أنه تراجع وتراخي القبضة الأمنية وتضعضع هيبة النظام، ما دفع بالمحتجّين إلى تزخيم حراكهم الذي استشرت تداعياته إلى غير مدينة ليبية.
هذا الإنتشار الواسع لمساحة الإعتصام في مدن ليبية عدّة منح الواقفين وراء حراك بنغازي جرعة معنوية كافية لرفض التفاوض مع أيّ موفد من القذّافي إليهم. ونحن إذْ نستخدم كلمة «الواقفون» وراء الحراك الإحتجاجي فذلك بقصد الفصل بين أسر شهداء حادثة القنصلية الإيطالية وبين من استثمر على دماء هؤلاء الشهداء وربط قضيتهم بضحايا سجن أبوسليم، فلقد أثبتت الأحداث فيما بعد بأنّ هناك مطبخاً خطيراً يُسيِّر الأحداث ويستثمر فيها بامتياز متّخِذاً من الشرق الليبي عامة ومدينة بنغازي خاصة قاعدة خلفية ودينوغرافية لتحركاته وخططه وكمائنه سيّما وأنّ أكثرية ضحايا سجن أبوسليم هم من «الإسلاميين» الذين لطالما تربّصوا بالقذّافي شراً؛ والذين لطالما انتظروا ساعة الصفر التي دوّت صفارات إنذارها في بروكسل حيث مقرّ حلف شمال الأطلسي.
وبالعودة إلى حادثة القنصلية الإيطالية فنجد أنّه من المفيد والضروري تسليط الأضواء على هذه القضية بقصد توضيحها، فالذي يعرفه الجميع أنّ أجهزة الأمن الليبية أطلقت النار على متظاهرين ليبيين غاضبين من تصريحات وزير إيطالي دافع فيها عن رسّام الصور الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (ص)، لكنّ الذي لا يعرفه الجميع، هو أنّ هذه التظاهرة، انطلقت مع تظاهرة مماثلة لها في العاصمة الليبية طرابلس يوم 17 فبراير شباط 2006، وأنّ الدعوة إلى التظاهرتين قد تمّت من قبل الدولة الليبية ممثّلة بالهيئة العامة للأوقاف وشؤون الزكاة، حيث تولّى أئمة وخطباء المساجد التابعين للأوقاف حثّ الناس على الخروج في هذه التظاهرة انتصاراً للنبي محمّد (ص) واستنكاراً للرسوم الكاريكاتورية المسيئة إليه، فضلاً عن استنكار تصريحات الوزير الإيطالي «كاريجولي»، وقد لخصت القيادة الليبية هذه التظاهرات بمذكرة استنكار رسمية ضد الحكومة الإيطالية التي استجابت لضغوط القيادة الليبية بالاعتذار عن تصريحات الوزير الإيطالي بالإضافة إلى إقالته.
لكنّ الحماسة والإندفاعة التي اتّسم متظاهرو بنغازي بها، والذين تسلّق عدد منهم سور القنصلية الإيطالية في بنغازي فأحرقوا علمها وبعض أجزائها، الأمر الذي دفع بقوات حفظ النظام ومكافحة الشغب المولجة بحماية المصالح الأجنبية والممتلكات العامة والخاصة إلى إطلاق النار بهدف إبعاد المتظاهرين عن العبث بالقنصلية ما أدّى إلى سقوط 14 شهيداً، هم بالمناسبة من الأسر والعائلات المعروفة بولائها للقذّافي، وقد عمدت الدولة الليبية يومها إلى محاسبة المسؤولين الأمنيين عن الحادثة وإلى إقالة أمين الأمن العام أي (وزير الداخلية) آنذاك نصر المبروك بالإضافة إلى دفع الديّات لأسر الشهداء وطيّ هذا الملف نهائياً وإخراجه من دائرة الإستثمار السلبي.
المصدر : http://alichendeb.blogspot.com/2013/04/blog-post_2210.html
الأحد مايو 31, 2015 3:20 pm من طرف الفارس الفارس
» الإتحاد الأوربي و ليبيا
الأحد مايو 31, 2015 3:15 pm من طرف الفارس الفارس
» مدينة سرت الليبية و الجفرة و مناطق الوسط تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش )
الأحد مايو 31, 2015 3:02 pm من طرف الفارس الفارس
» سرت و نقص البنزين
السبت مايو 16, 2015 2:28 pm من طرف الفارس الفارس
» حديث اخضر اللثام للمنظمات الحقوقية عن مايحدث في طرابلس و ورشفانة
الخميس أبريل 30, 2015 8:24 am من طرف عائشة القذافي
» الدكتور مصطفى الزائدي - Dr.Mustafa El Zaidi
الأربعاء أبريل 29, 2015 7:54 am من طرف عائشة القذافي
» بقلم الأستاذ : هشام عراب .
الأربعاء مارس 18, 2015 10:43 am من طرف عائشة القذافي
» نبوءة القذافي يحقّقها آل فبراير، ويقرّ بها العالم ،،
الأربعاء مارس 04, 2015 8:53 pm من طرف عائشة القذافي
» توفيق عكاشة يهدد التنظيم و يطالب أهالي سرت بعدم الذهاب للجامعة
الثلاثاء مارس 03, 2015 10:34 pm من طرف عائشة القذافي
» منظمة ضحايا لحقوق الانسان Victims Organization for Human Rights
الأربعاء يناير 21, 2015 8:49 am من طرف عائشة القذافي
» الدكتور مصطفى الزائدي - Dr.Mustafa El Zaidi
الأربعاء يناير 21, 2015 8:30 am من طرف عائشة القذافي
» معمر القذافي علي قيد الحياة بالدليل القاطع
الإثنين ديسمبر 08, 2014 8:24 pm من طرف الفارس الفارس