أسوار القبضة الحديدية
إذا كان معمّر القذّافي، قد أدرك كُنْه المستوى الليبي فعمل على تسويته بالنظريات المنفصلة عن الواقع لترويض الواقع وجعله أمراً واقعاً ونجح، لكنْ هل خاض هذا الرجل معاركه الخارجية بالأسلحة نفسها، أم كان منطق التحدّي يغلب على الترويض، أم أنّه انتهج الأسلوبين معاً، فمرة تبطّن التسوية ومرّة تعجرف؟.
إنّها المسيرة السياسية ببعدها الخارجي، الدولي والإقليمي، التي بدأت منذ إنبلاج عصر الفاتح الحديث وحتى شيوع عصر التوريث عبر سيف الإسلام غير الوريث! نعم لم يكن سيف الإسلام يوماً وريثاً لعرش أبيه.
بالطبع، تحفل المرحلة القذّافية ذات الأربعة عقود وجبرٍ بالكثير الكثير من الأحداث والمنعطفات السياسية على المستوى الخارجي يحتاج سردها وتحليلها إلى مجلّدات بتمامها وكمالها، لكنّنا في هذا العمل سنُعرِّج على أبرزها، غير أنّ هذا التعريج ليس مرتكزاً على أهمية حدث دون آخر وإنّما على غرضيّة الكتاب وأهدافه، فالكتب كما البشر، تتّسم بالأنانية أيضاً، لكنّها الأنانية العملية.. فحدِّث ولا حرج.
يجب التسجيل بداية بأنّ الدور الهام واللافت الذي اضطلع به معمّر القذّافي ورفاقه في ثورة الفاتح بحدّ ذاتها واستتباعه تثبيت نظام حكمهم، كانت له ارتداداته الدولية، فإجلاء وطرد القوات والقواعد الأميركية والبريطانية عن التراب الليبي شكّل خطوة بارزة وحاسمة في تحرير ليبيا واستعادة سيطرتها على أراضيها وثرواتها الطبيعية منها وغير الطبيعية، وهي السيطرة التي توِّجت بعملية «تأميم النفط» وما تداعى عنها من إبعاد وطرد للشركات النفطية الأجنبية والأميركية منها خاصة، فالقرار الوطني والمصلحة الوطنية اقتضيا السيطرة الكاملة على قطاع النفط إنتاجاً وتسعيراً وتسويقاً، فأُصيبت الشركات الأجنبية بجروح وخسائر عميقة، وفعلها القذّافي على خطى القدوة عبد الناصر.
استعادة ليبيا سيادتَها على أراضيها وثرواتها، على أهميته الحيوية، لم يكن الأمر الوحيد الذي أثار حفيظة الغرب عامة وأميركا خاصة، اذ شكّل احتضان ثورة الفاتح لفصائل الثورة الفلسطينية وفتح معسكرات التدريب الليبية للمقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين وجميع حركات التحرّر العربية والإفريقية والأجنبية من ثوّار الباسك الأسبانية إلى الألوية الحمراء الإيطالية إلى منظمة بادر ماينهوف الألمانية وحركة العمل المباشر الفرنسية والجيش الجمهوري الإيرلندي والجيش الأرمني السرّي والجيش الأحمر الياباني والهنود الحمر وثوّار الجبهة الساندينية في نيكاراغوا وصولاً إلى أبو نضال رئيس المجلس الثوري الفلسطيني والمناضل الفنزويلي الأممي كارلوس، وغيرهم ممن شكّلت ليبيا ملاذهم وملجأهم، وشكّل العقيد القذّافي مرجعيتهم الثورية المصدرة للأفكار والمُسيّلة بالدعم والتسليح والأموال؛ شكّل هذا الإحتضان وهذه المرجعية «مثابة اللعنة» للغرب، فقضى القرار الغربي ـــــ الأميركي بشطب القذّافي من المعادلة، تُرجم بمختلف محاولات الإغتيال التي تعرّض لها، تُوِّج بمحاولة الإغتيال المباشرة التي نفّذتها الغارة الأميركية البريطانية المباشرة عام 1986 عندما استهدفت، بالإضافة إلى مقرّه وبيته في ثكنة «باب العزيزية»، بعض المواقع المدنية والعسكرية في مدينتي طرابلس وبنغازي، وكانت الذريعة الأميركية الغربية يومها تتمثّل بتحميل القذّافي مسؤولية الهجوم على ملهى «لابيل» في المانيا، ومقتل شرطية بريطانية أمام السفارة الليبية في لندن. ويومها جدّد الليبيون مرّة أخرى ولاءهم للقائد وردّدت حناجرهم بقوّة «كل الروس فدا لراسك يا قايد نحنا حراسك». لكن!
لكن الغارة الأميركية الهادفة إلى قتل القذّافي حملت أكثر من رسالة، ليس للقذّافي فحسب، وإنّما لغيره من رؤساء الدول التي تصنّفها الولايات المتحدة مارقة أو راعية أو داعمة أو حاضنة للإرهاب، وكانت ليبيا مدرجة على لائحة الدول المارقة والراعية للإرهاب، وهو التصنيف الذي يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته لضبط هذه الدولة وزعيمها الإرهابي.
وصلت الرسالة مكتوبة ببدء بيّنة دم، فخفّف القذّافي عملياً من حماسته واندفاعته في دعم وتسليح وتمويل حركات التحرّر المذكورة أعلاه، فيما استمرّ نظرياً وإعلامياً في رفع الصوت ضد سياسات الغطرسة الأميركية التي حذّرها من تجاوز المياه الإقليمية، مُحدِّداً خليج سرت؛ إنّه «خطّ الموت» فيما لو تجاوزته الطائرات الأميركية، عندها ستتحول جثث طياريها طعاماً لأسماك البحر الأبيض المتوسِّط، دون الأطلسي. يومها لم يقل القذّافي للأميركيين «سيكون الشعب الليبي لكم بالمرصاد».
وعلى هذا الخط ـــــ المرصاد، أخذت معسكرات التدريب في الإختفاء التدرّجي من العاصمة الليبية طرابلس وضواحيها، ومعها المكاتب السياسية والإعلامية لهذه الحركات. لكنّ القذّافي ظلّ يحتفظ بصلاته التي لم تنقطع معها، فشكّل يومها ما عرف بــــ «القيادة القومية للقوات الثورية في الوطن العربي» بإشراف اثنين من الضباط الأحرار هما عبد الله حجازي وصالح الدروقي؛ إنّه الإطار الذي يضم جميع التنظيمات والحركات السياسية الرافضة والمناهضة للسياسة الأميركية والمعروفة اختصاراً بــــ «إسرائيل».
وبالتوازي مع القيادة القومية وقبلها أطلق القذّافي «مؤتمر الشعب العربي» برئاسة عمر الحامدي كإطار فاعل فيما بين الأحزاب والتيارات والشخصيات العربية، كما أطلق بداية التسعينات بعيد انهيار الإتحاد السوفياتي «ملتقى الحوار العربي الثوري الديمقراطي» كإطار للحوار بين تيّارات الأمة الإسلامية والقومية والماركسية بإدارة العقيد محمد المجدوب ورئاسة الرئيس الجزائري احمد بن بلا، كما شكّل القذّافي إطاراً جديداً لحركات التحرّر الأجنبية عُرِف باسم «المثابة العالمية لمقاومة الإمبريالية والصهيونية» التي أشرف عليها المتشقِّق قديماً والمنشقّ حديثاً موسى كوسى رئيس جهاز الأمن الخارجي ووزير الخارجية.
بهذه «المثابات» بنى القذّافي حضوره الثوري الذي استمدّ بريقه من تبنّيه لحركات التحرير حول العالم، فمن يتبنّى التفجير إلّا هو!
أتى تفجير طائرة البانام الأميركية عام 1988 فوق مدينة لوكربي الاسكتلندية، لتتوقّف بوصلته عند اتّهام ليبيا به بعدما اتُهمت به إيران وسوريا والقيادة العامة الفلسطينية بزعامة أحمد جبريل، الأمر الذي وضع ليبيا تحت مرمى الإستهداف من جديد، لكن وهذه المرّة عبر قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي وتحت الفصل السابع، قضت بفرض حصار اقتصادي وديبلوماسي وجوّي مُحكم، رغم أنّ العقيد لم يتبَنَّ التفجير.
لكنّ الحصار الإقتصادي والعسكري الذي فُرض على جماهيرية العقيد بقصد إنهاكه وتقويضه من الداخل، أعطى نتائج سلبية من وجهة نظر الغرب، حيث اقتدرت ليبيا والقذّافي على التأقلم مع الحصار وظروفه على قساوتها خصوصاً على الصعيد الإنساني، حيث تمكّن القذّافي الرافض للإتّهام وتسليم أيّ من مواطنيه المتهمين بالتفجير، من بناء حركة التفاف شعبي غير مسبوق. والحق يُقال أنّ الوحدة الوطنية الليبية كانت في أبهى صورها وحللها تحت الحصار حيث برهن الشعب الليبي بوقوفه خلف قيادته وتضامنه معها عن وطنية ما بعدها وطنية، فالقضية ترتبط بإخضاع وطن ولَيِّ ذراعه عبر الشروط الصعبة التحقّق.
لكنّ تسابق سواد النظام الرسمي العربي الأعظم في الإلتزام بتنفيذ مندرجات القرار بالحصار لحظة إعلانه وبعدها وقبيل سريان تنفيذه، شكّل «مثابة المرارة» لدى القذّافي والليبيين على السواء، نتجت عنه ردّة فعل ليبية سلبية تجاه العرب، وخصوصاً الجامعة العربية وأمينها العام عمرو موسى ومن خلفه الرئيس المصري حسني مبارك اللذين لعبا خلال هذه المرحلة دور السمسار وناقل العروض والرسائل من الغرب إلى ليبيا القذّافي. وما ضاعف من مرارته أيضاً أنّ موقف حركات التحرّر التي احتضنها ودعمها ورعاها ومدّها بأسباب القوّة والإستمرار وأوصل بعض قادتها إلى مواقع رسمية، لم يكن بأفضل حالاً بكثير من موقف سواد النظام الرسمي العربي.
«وَلِّ وجهك شطر إفريقيا الحلال» هو الشعار الذي اعتنقه الزعيم الليبي بعد سقوط وتساقط الشطرين العربي والإسلامي «الحرام»، فوجد لدى الأفارقة قادة وشعوباً المصالح المشتركة التي تدفعهم إلى التضامن الذي حصل بالفعل عندما تحوّل إلى قرار سياسي قضى بإدارة الظهر لقرارات مجلس الأمن الدولي العقابية والقمعية، وهي الإدارة التي حصلت في قمة «واغادوغو» الشهيرة، حيث أعلن قادة القارّة السمراء في هذه القمة عن قرارهم الجماعي في كسر الحصار عن الجماهيرية الليبية وعبّروا عنه بركوبهم الطائرات وتوجّههم إلى ليبيا في 1/9/1999، للمشاركة في احتفالات الفاتح، التي أعلن القذّافي ومن خلالها وعبر خطاب لافت يعكس حجم التحوّلات السياسية لديه، عن «الطلاق مع العرب والكفر بالعروبة، وتوجهه إلى إفريقيا والنضال من أجل وحدتها»، وهناك نجح القذّافي في تحويل «منظمة الوحدة الإفريقية» في قمة سرت إلى «الإتحاد الإفريقي» وكان ذلك بتاريخ 9/9/1999، وكانت خطوة متقدمة باتجاه طرح قيام الحكومة الإتحادية الإفريقية.
شكّل ابتعاد القذّافي عن العرب وكفره بالعروبة معنى أراد الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة أن يكون مرادفاً لمصطلح «الطلاق» مع قضية الصراع مع العدو الإسرائيلي، وفعلاً فقد شكّل ابتعاد القذّافي عن هذا الملف توطئة لتنفرد إيران به، خصوصاً بعد نجاحها الكبير في رفع شأن حزب الله اللبناني كحركة مقاومة، تنفرد بالساحة في جنوب لبنان، بعد انقطاع التمويل الليبي والعراقي عن الحركات الفلسطينية واللبنانية التي كانت تتصدّى لهذا الملف قبيل تثبيت حزب الله أقدامه في الجنوب اللبناني واحتكاره قضية المقاومة والسلاح ضد إسرائيل.
لكن هل أن «الفيتو» الذي وضعته الولايات المتحدة على تدخّل القذّافي في ملف الصراع مع العدو الإسرائيلي عبر دعم واحتضان حركات المقاومة الفلسطينية، يسحب نفسه على تدخّل القذّافي في إفريقيا التي تقتضي الإستراتيجيات الأميركية ضمّ هذه القارّة إلى الشرق الأوسط وقطع الطريق أمام التغلغل الصيني وهو التغلغل الذي لا يمكن أنْ يسير ليصل إلى كل مدياته من دون العبور في بوابة القذّافي؟
هذا هو السؤال الكبير الذي يجب التوقّف عنده، عند دراسة الدواعي والمحرِّضات الستراتيجية للحرب الأطلسية الأميركية على ليبيا، بذريعة حماية الثوريين المدنيين. فكفى تهريجاً أيّها المناضلون وكفى تبرّجاً أيّها الأناضوليون.
وكتوطئة مبكِّرة للإجابة على ذاك السؤال نقول إنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ نجاح القذّافي في إطلاق «الإتحاد الافريقي» من مدينة سرت قد شكّل تعويضاً معنوياً واعتبارياً كبيراً للرجل المحاصر بالمرارة التي تجرّعها من سواد النظام الرسمي العربي الأعظم؛ إنّه التعويض الذي أراد القذّافي من خلاله القول إنّ الأزمة والمشكلة لا تكمن في استحالة تحرير فلسطين، ولا في امتلاك العرب لمقوّمات إنشاء دولة الوحدة العربية، ولا في عجز منظمة الصمود والتصدي لأيّ خطر يتهدّدها، وإنّما تكمن في عدم وجود إرادات صادقة لدى النظام العربي الذي ليس هو إلّا مرآة تعكس مصالح الدول الأجنبية الكبرى.
كانت إندفاعة القذّافي وحماسته في ملفّ الإتحاد الإفريقي وتشكيل الحكومة الإتحادية الإفريقية، توازيان اندفاعته وحماسته في السنوات الأولى التي تلت انطلاقة ثورة الفاتح من سبتمبر. فلقد كان مهتمّاً لأبعد الحدود في بذل الجهود المتواصلة لتحقيق الأهداف المنشودة في ممتعته إفريقيا.
ولأنّه لُدِغ من سياسة حرق المراحل فقد أخذ الجرعة الأولى من العبر، لذلك نجد كيف أنّ القذّافي مهّد لمشروع الإتحاد الإفريقي بمشروع إقليمي سُمّي بــــ «تجمع دول الساحل والصحراء الإفريقية»، وهو التجمّع الذي يضمّ الدول المتجاورة فيما بينها والمتصلة عبر الساحل والصحراء. ويعتبر هذا التجمع الذي شكّل قاعدة الهرم في بناء الإتحاد الإفريقي، واحداً من المنظمات الإفريقية دون الاقليمية النشطة التي كان لها بالإضافة لأطر التعاون والتنسيق الأمني فيما بينها، عدد من المشروعات الإقتصادية والإستثمارية الهامة، لعلّ «مصرف الساحل والصحراء» والذي يعنى بتشجيع التنمية الريفية، في طليعتها.
بهذه المرحليّة، أشرف القذّافي على مشروع الإتحاد الإفريقي، منطلقاً من تأسيسه منظمة إقليمية أساسية من مكوِّنات القارّة السمراء، التي تكتنز بكمية غير محدّدة من الثروات الطبيعية من مصادر الطاقة على اختلافها، والمياه والكتل البشرية التي ناءت تحت تخلف مزمن سببه سياسة الإستعباد الإستعماري من الغرب الأميركي والأوروبي على السواء.
هنا وجد القذّافي نفسه أمام ورشة كبرى من العمل المتواصل لتحقيق مراميه وتطلعات شعوب إفريقيا في التنمية بعد التحرّر من الإستعمار؛ هي الورشة التي «أَفْرَقَتْ» ليبيا بالكامل بدءاً من نشرات الأخبار والبرامج السياسية وصولاً إلى الموسيقى والألحان، حيث أصبح التلفزيون الليبي يبثّ أيضاً نشرات إخبارية يومية بلغات ولهجات إفريقية، وأصبحت الإذاعة الليبية تصدح بالموسيقى الإفريقية، وحتى الأزياء الإفريقية راجت في الأسواق الليبية، والتي يأتي بها التجّار الأفارقة برّاً من تشاد والنيجر ومالي وغيرها.
وكما كان للقذّافي أدواته في ترويض لِيبِيِّيهِ، كانت له أدواته أيضاً في ترويض قادة إفريقيا، ولهذه الغاية أسّس الإفريقيُّ الجديدُ «الملتقى العام للمنظمات الأهلية الإفريقية» الذي يحمل مهمة مواكبة انعقاد القمم الإفريقية ليشكّل القذّافي من خلاله عوامل ضغط على الحكومات الإفريقية كي تصادق على مشروع الحكومة الإتحادية الإفريقية.
ولجعل كل ملوك الأرض، عرباً وغرباً، تحت هالته، وشى القذّافي بتأسيس «الملتقى العام لملوك وأمراء وسلاطين وشيوخ إفريقيا»؛ وهو الملتقى الذي يضمّ ملوك وسلاطين وأمراء القبائل الإفريقية بأعدادها الملايينية، وكان طبيعياً أنْ يُطوِّب هذا الملتقى، خادم العلَمين الشريدَيْن، العلم الليبي الأخضر والعلم الإفريقي الاسمر، معمّر القذّافي، «ملكاً لملوك إفريقيا» في احتفالية كبرى متناغمة مع كل الطقوس المثيرة لتتويج ملك بتاجه وصولجانه المُذهَّبين.
بهذا التقليد، الأشبه بــــ «المغامرة غير المحسوبة»، بدأت أخطاء القذّافي القاتلة بالتراكم وبدأت أسهم وطلقات الإنتقاد المصوّبة إلى صدره تستقرّ في مكانها المستهدف. فلقد نجح المتربِّصون به ثأراً وانتقاماً من العرب والعجم في تركيز عَدَسة الكاميرا على «جنونياته»، في الوقت الذي كان يجب توجيهها على نجاحاته الإفريقية أيضاً. فهناك تمكّن القذّافي من معالجة الكثير من الملفّات الساخنة ومن إطفاء حرائق عدة سواء بين بعض البلدان أو بين بعض القبائل ومنها الصراع السوداني التشادي، وأيضاً الصراع التشادي ـــــ التشادي، وكذلك الصراع بين فصائل دارفور، وأيضاً الصراع بين الفصائل الدارفورية والحكومة السودانية.
وهناك أثنى الرئيس السوداني عمر البشير على جهود وإنجازات القذّافي، لكنّها الجهود التي تعرّضت لنوع من «القرصنة» المفاجئة من قبل الذين سيبرمون مع الزعيم السوداني الإخواني حسن الترابي عقد إطاحة بالزعيم الليبي، في لحظات سياسية بدت لوهلاتها الأولى بريئة، لكنّها لحظاتٌ ما كان أحد يدري أنّها في شكلها ومضمونها توطئة وإشارة يجب أنْ تشي بأنّ حياة القذّافي السياسية قد انتهت بدءاً من إفريقيا بشقّها العربي.
.. من قطر يأتي الجديد هذه المرّة، حيث الأمراء الجدُد يقودون المستحيل كمن يقود سيارة مقودها لزج لزاجة ما بعدها لزاجة، ففي التفاصيل اللاحقة سنحدِّد مكامن اللزاجة ومحلّها ومضامينها، أمّا الآن فنبقى مع القذّافي بعد حراك قطر في المجال الحيوي الإستراتيجي لليبيا وله.
بسحرٍ قطريّ ساحر أخذت الأحلام القذافية بالتبخّر الفجائي غير المصحوب بدرجة حرارة فوق المئة. فحتى فكرة الحكومة الإتحادية الإفريقية أضحت في خبر كان.. ففي حين بدا القذّافي كباعث ومؤسّس وملهم للإتحاد الإفريقي نجده في السنوات الأخيرة يقاتل لكي يَشْغَلَ عُكّازُه علي التريكي منصب رئيس مفوضية الإتحاد الإفريقي، لكنّ الأفارقة ما كانوا ليوافقوا على إسناده لهذا المرشح، الأمر الذي دفع القذّافي إلى نوع من الحرد الذي وصل حدّ التهديد بالإنسحاب من إفريقيا وسحب الإستثمارات الليبية منها، والعودة إلى الشطرين الحرام، العربي والإسلامي، وحتى إلى الخيار المتوسّطي الساركوزي.
طبعاً، كان القذّافي يوجه كلامه الإستباقي هذا للقادة الأفارقة، عشية انعقاد قمة أديس أبابا عام 2008، لكنّ هؤلاء وبهدف استرضاء الزعيم الليبي اتفقوا على تسمية المرشح السابق كرئيس للجمعية العامة للأمم المتحدة مع ما يوفِّره ذلك للقذّافي من إطلالة واسعة على الأمم المتحدة بأجهزتها التي قرّرت يوماً الإجهاز على زائرها الجديد وخطيبها الناقم.
هنا كان على القذّافي أنْ يعدّ العدّة ويستجمع كل مَلَكاته الخطابية ليعيد بريقه المجروح جراء إطلاقات النار المحسوبة بدقة التي تعرّض لها كــــ «ملك ملوك إفريقيا». فماذا فعل؟.
كلنا يذكر الصخب والضجيج اللذين أحدثتهما خيمة القذّافي التي أراد نصبها في مقر إقامته في نيويورك؛ لكنّ هذا الصخب أخذ يتلاشى أمام كلمته المطوّلة التي ألقاها من على منبر الجمعية العامة كرئيس فوق العادة لجماهيريته، فهناك ناقض القذافي نفسه.
وباستثناء فعلته المتمثّلة في تمزيقه ميثاق الأمم المتحدة الذي كانت مزّقته الولايات المتحدة قبله ومنذ عقود، ومطالبته بإجراء تحقيق يتناول مشروعية الحرب على العراق التي شُنّت بناءاً على أكاذيب، (وهي مطالبة سرقها الروس منه بعد مقتله حينما طالبوا بمثل ما طالب) والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الإحتلال الأميركي الغربي بحق المدنيين العراقيين، وكذلك التحقيق في كيفية إعدام الرئيس صدّام حسين، فإن القذافي في هذا الخطاب لم يقدّم شيئاً جديداً، فأعاد تكرار طروحاته القديمة سيما منها المتعلق بضرورة توسيع مجلس الرعب ليضم أعضاء آخرين، فمن حقّ إفريقيا وأميركا اللاتينية أن يشغلا مقعدين دائمين، فهنا أيضاً ناقض القذافي نفسه.
وقفة القذّافي أمام الأمم المتحدة وقبلها وقفاته الأخرى في المحافل الدولية والإقليمية، خصوصاً تلك التي كان يقفها في القمم العربية، كانت ترتدي أهميتها الشكلية دون الجوهرية. وبالطبع هناك الأسباب الجوهرية التي جعلتنا نرى القذّافي يخرج من الخيمة ليقيم في «استراحة» فخمة مصمّمة على الطريقة الغربية. هذه الأسباب سنتعرّف عليها لاحقاً، لكن من الأهمية بمكان هنا أنْ نبيّن أكثر ترف القذّافي، في الشكل دون المضمون.
القذّافي.. وقبيل توجهه للمرّة الأولى إلى صرح العالم الأول، الأمم المتحدة، كانت له سلسلة من المواقف في القمم العربية المنعقدة دورياً، لكنّ الإهانة المقرونة بالتهديد بالقتل التي تلقّاها من ولّي عهد السعودية الأمير عبد الله ابن عبد العزيز آل سعود في قمّة شرم الشيخ حفرت في نفس الرجل عميقاً، وبدأ يعدّ العدّة للأخذ بالثأر، فهو من تعوّد على شتم وتقريع المسؤولين العرب والغربيين، كيف له أنْ يقبل بأنْ يحمل هذه الراية غيره، وخصوصاً من يعتبرهم سراً وعلانية سبب إبتلاء الأمة.
انتظر القذّافي قمة تونس 2005.. لكنّها أُجلت لموعد آخر من العام نفسه بسبب الخلافات بين الوفود العربية على جدول الأعمال. حضر القذّافي القمة، لكنّ غياب ولّي عهد السعودية عن القمّة كان يرفع منسوب التوتر لدى المُهان بسبب «الدَّيْن» المستحق على الأمير عبد الله، ويرفع من ارتياحه أمام جمهوره من أنّ وليَّ عهد السعودية يغيب عن اجتماعات القمّة لأنّه يخاف مواجهته.
انتظر القذّافي قمة الجزائر 2006.. لكنّ الأمير غاب أيضاً. فتسلّى القذّافي بسبحته «إسراطين» كحلّ للمشكلة الفلسطينية. ثم وضعها جانباً ونظر إلى بشّار الأسد ليصوِّب على «محكمة الحريري»، فكيف يُخصّ رفيق الحريري بمحكمة، ولا يخصّص ياسر عرفات ورشيد كرامي وغيرهما من الشهداء بمثلها.
طال الإنتظار إذن.. والأيام تتوالى وثأر القذّافي المبيّت من ولي عهد السعودية، لا يمحوه تقادم الزمن عند صديق الزمن. وقد أُعلن عن فشل محاولة لإغتيال الأمير عبد الله في الرياض، اتُهم فيها اثنان بينهم محمد اسماعيل أحد أبرز المقرّبين من القذّافي ونجله سيف الإسلام.
حلّت قمّة الدوحة الشهيرة.. حضرها الملك عبدالله. فاجأ القذّافي شاتمه السعودي وأمير قطر والقادة العرب والرأي العام العربي الذي كان يتابع عبر الفضائيات أعمال القمّة الذي توقع ثأر القذّافي، بمداخلة وسط مقاطعة أمير قطر الذي قطع الصوت عن أجهزة اللواقط، ردّ فيها القذّافي على تهديدات الملك بمثلها ووضع في خواتيمها مخرجاً تلقفه الأمير القطري الذي سارع إلى ترتيب اجتماع بين العقيد والملك حضره سعود الفيصل وزير خارجية السعودية والعقيد عبد الله السنوسي رئيس الإستخبارات الليبية، ولتنتهي عند هذا الحدّ المشكلة الشخصية بين الرجلين في الشكل ليبقى المضمون منتظراً ساعة الصفر التي بحلولها يجب دكّ الأسوار مهما كانت الكلفة عالية، لكن ليس بالضرورة سامية.
المصدر : http://alichendeb.blogspot.com/2013/03/1969_31.html
إذا كان معمّر القذّافي، قد أدرك كُنْه المستوى الليبي فعمل على تسويته بالنظريات المنفصلة عن الواقع لترويض الواقع وجعله أمراً واقعاً ونجح، لكنْ هل خاض هذا الرجل معاركه الخارجية بالأسلحة نفسها، أم كان منطق التحدّي يغلب على الترويض، أم أنّه انتهج الأسلوبين معاً، فمرة تبطّن التسوية ومرّة تعجرف؟.
إنّها المسيرة السياسية ببعدها الخارجي، الدولي والإقليمي، التي بدأت منذ إنبلاج عصر الفاتح الحديث وحتى شيوع عصر التوريث عبر سيف الإسلام غير الوريث! نعم لم يكن سيف الإسلام يوماً وريثاً لعرش أبيه.
بالطبع، تحفل المرحلة القذّافية ذات الأربعة عقود وجبرٍ بالكثير الكثير من الأحداث والمنعطفات السياسية على المستوى الخارجي يحتاج سردها وتحليلها إلى مجلّدات بتمامها وكمالها، لكنّنا في هذا العمل سنُعرِّج على أبرزها، غير أنّ هذا التعريج ليس مرتكزاً على أهمية حدث دون آخر وإنّما على غرضيّة الكتاب وأهدافه، فالكتب كما البشر، تتّسم بالأنانية أيضاً، لكنّها الأنانية العملية.. فحدِّث ولا حرج.
يجب التسجيل بداية بأنّ الدور الهام واللافت الذي اضطلع به معمّر القذّافي ورفاقه في ثورة الفاتح بحدّ ذاتها واستتباعه تثبيت نظام حكمهم، كانت له ارتداداته الدولية، فإجلاء وطرد القوات والقواعد الأميركية والبريطانية عن التراب الليبي شكّل خطوة بارزة وحاسمة في تحرير ليبيا واستعادة سيطرتها على أراضيها وثرواتها الطبيعية منها وغير الطبيعية، وهي السيطرة التي توِّجت بعملية «تأميم النفط» وما تداعى عنها من إبعاد وطرد للشركات النفطية الأجنبية والأميركية منها خاصة، فالقرار الوطني والمصلحة الوطنية اقتضيا السيطرة الكاملة على قطاع النفط إنتاجاً وتسعيراً وتسويقاً، فأُصيبت الشركات الأجنبية بجروح وخسائر عميقة، وفعلها القذّافي على خطى القدوة عبد الناصر.
استعادة ليبيا سيادتَها على أراضيها وثرواتها، على أهميته الحيوية، لم يكن الأمر الوحيد الذي أثار حفيظة الغرب عامة وأميركا خاصة، اذ شكّل احتضان ثورة الفاتح لفصائل الثورة الفلسطينية وفتح معسكرات التدريب الليبية للمقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين وجميع حركات التحرّر العربية والإفريقية والأجنبية من ثوّار الباسك الأسبانية إلى الألوية الحمراء الإيطالية إلى منظمة بادر ماينهوف الألمانية وحركة العمل المباشر الفرنسية والجيش الجمهوري الإيرلندي والجيش الأرمني السرّي والجيش الأحمر الياباني والهنود الحمر وثوّار الجبهة الساندينية في نيكاراغوا وصولاً إلى أبو نضال رئيس المجلس الثوري الفلسطيني والمناضل الفنزويلي الأممي كارلوس، وغيرهم ممن شكّلت ليبيا ملاذهم وملجأهم، وشكّل العقيد القذّافي مرجعيتهم الثورية المصدرة للأفكار والمُسيّلة بالدعم والتسليح والأموال؛ شكّل هذا الإحتضان وهذه المرجعية «مثابة اللعنة» للغرب، فقضى القرار الغربي ـــــ الأميركي بشطب القذّافي من المعادلة، تُرجم بمختلف محاولات الإغتيال التي تعرّض لها، تُوِّج بمحاولة الإغتيال المباشرة التي نفّذتها الغارة الأميركية البريطانية المباشرة عام 1986 عندما استهدفت، بالإضافة إلى مقرّه وبيته في ثكنة «باب العزيزية»، بعض المواقع المدنية والعسكرية في مدينتي طرابلس وبنغازي، وكانت الذريعة الأميركية الغربية يومها تتمثّل بتحميل القذّافي مسؤولية الهجوم على ملهى «لابيل» في المانيا، ومقتل شرطية بريطانية أمام السفارة الليبية في لندن. ويومها جدّد الليبيون مرّة أخرى ولاءهم للقائد وردّدت حناجرهم بقوّة «كل الروس فدا لراسك يا قايد نحنا حراسك». لكن!
لكن الغارة الأميركية الهادفة إلى قتل القذّافي حملت أكثر من رسالة، ليس للقذّافي فحسب، وإنّما لغيره من رؤساء الدول التي تصنّفها الولايات المتحدة مارقة أو راعية أو داعمة أو حاضنة للإرهاب، وكانت ليبيا مدرجة على لائحة الدول المارقة والراعية للإرهاب، وهو التصنيف الذي يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته لضبط هذه الدولة وزعيمها الإرهابي.
وصلت الرسالة مكتوبة ببدء بيّنة دم، فخفّف القذّافي عملياً من حماسته واندفاعته في دعم وتسليح وتمويل حركات التحرّر المذكورة أعلاه، فيما استمرّ نظرياً وإعلامياً في رفع الصوت ضد سياسات الغطرسة الأميركية التي حذّرها من تجاوز المياه الإقليمية، مُحدِّداً خليج سرت؛ إنّه «خطّ الموت» فيما لو تجاوزته الطائرات الأميركية، عندها ستتحول جثث طياريها طعاماً لأسماك البحر الأبيض المتوسِّط، دون الأطلسي. يومها لم يقل القذّافي للأميركيين «سيكون الشعب الليبي لكم بالمرصاد».
وعلى هذا الخط ـــــ المرصاد، أخذت معسكرات التدريب في الإختفاء التدرّجي من العاصمة الليبية طرابلس وضواحيها، ومعها المكاتب السياسية والإعلامية لهذه الحركات. لكنّ القذّافي ظلّ يحتفظ بصلاته التي لم تنقطع معها، فشكّل يومها ما عرف بــــ «القيادة القومية للقوات الثورية في الوطن العربي» بإشراف اثنين من الضباط الأحرار هما عبد الله حجازي وصالح الدروقي؛ إنّه الإطار الذي يضم جميع التنظيمات والحركات السياسية الرافضة والمناهضة للسياسة الأميركية والمعروفة اختصاراً بــــ «إسرائيل».
وبالتوازي مع القيادة القومية وقبلها أطلق القذّافي «مؤتمر الشعب العربي» برئاسة عمر الحامدي كإطار فاعل فيما بين الأحزاب والتيارات والشخصيات العربية، كما أطلق بداية التسعينات بعيد انهيار الإتحاد السوفياتي «ملتقى الحوار العربي الثوري الديمقراطي» كإطار للحوار بين تيّارات الأمة الإسلامية والقومية والماركسية بإدارة العقيد محمد المجدوب ورئاسة الرئيس الجزائري احمد بن بلا، كما شكّل القذّافي إطاراً جديداً لحركات التحرّر الأجنبية عُرِف باسم «المثابة العالمية لمقاومة الإمبريالية والصهيونية» التي أشرف عليها المتشقِّق قديماً والمنشقّ حديثاً موسى كوسى رئيس جهاز الأمن الخارجي ووزير الخارجية.
بهذه «المثابات» بنى القذّافي حضوره الثوري الذي استمدّ بريقه من تبنّيه لحركات التحرير حول العالم، فمن يتبنّى التفجير إلّا هو!
أتى تفجير طائرة البانام الأميركية عام 1988 فوق مدينة لوكربي الاسكتلندية، لتتوقّف بوصلته عند اتّهام ليبيا به بعدما اتُهمت به إيران وسوريا والقيادة العامة الفلسطينية بزعامة أحمد جبريل، الأمر الذي وضع ليبيا تحت مرمى الإستهداف من جديد، لكن وهذه المرّة عبر قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي وتحت الفصل السابع، قضت بفرض حصار اقتصادي وديبلوماسي وجوّي مُحكم، رغم أنّ العقيد لم يتبَنَّ التفجير.
لكنّ الحصار الإقتصادي والعسكري الذي فُرض على جماهيرية العقيد بقصد إنهاكه وتقويضه من الداخل، أعطى نتائج سلبية من وجهة نظر الغرب، حيث اقتدرت ليبيا والقذّافي على التأقلم مع الحصار وظروفه على قساوتها خصوصاً على الصعيد الإنساني، حيث تمكّن القذّافي الرافض للإتّهام وتسليم أيّ من مواطنيه المتهمين بالتفجير، من بناء حركة التفاف شعبي غير مسبوق. والحق يُقال أنّ الوحدة الوطنية الليبية كانت في أبهى صورها وحللها تحت الحصار حيث برهن الشعب الليبي بوقوفه خلف قيادته وتضامنه معها عن وطنية ما بعدها وطنية، فالقضية ترتبط بإخضاع وطن ولَيِّ ذراعه عبر الشروط الصعبة التحقّق.
لكنّ تسابق سواد النظام الرسمي العربي الأعظم في الإلتزام بتنفيذ مندرجات القرار بالحصار لحظة إعلانه وبعدها وقبيل سريان تنفيذه، شكّل «مثابة المرارة» لدى القذّافي والليبيين على السواء، نتجت عنه ردّة فعل ليبية سلبية تجاه العرب، وخصوصاً الجامعة العربية وأمينها العام عمرو موسى ومن خلفه الرئيس المصري حسني مبارك اللذين لعبا خلال هذه المرحلة دور السمسار وناقل العروض والرسائل من الغرب إلى ليبيا القذّافي. وما ضاعف من مرارته أيضاً أنّ موقف حركات التحرّر التي احتضنها ودعمها ورعاها ومدّها بأسباب القوّة والإستمرار وأوصل بعض قادتها إلى مواقع رسمية، لم يكن بأفضل حالاً بكثير من موقف سواد النظام الرسمي العربي.
«وَلِّ وجهك شطر إفريقيا الحلال» هو الشعار الذي اعتنقه الزعيم الليبي بعد سقوط وتساقط الشطرين العربي والإسلامي «الحرام»، فوجد لدى الأفارقة قادة وشعوباً المصالح المشتركة التي تدفعهم إلى التضامن الذي حصل بالفعل عندما تحوّل إلى قرار سياسي قضى بإدارة الظهر لقرارات مجلس الأمن الدولي العقابية والقمعية، وهي الإدارة التي حصلت في قمة «واغادوغو» الشهيرة، حيث أعلن قادة القارّة السمراء في هذه القمة عن قرارهم الجماعي في كسر الحصار عن الجماهيرية الليبية وعبّروا عنه بركوبهم الطائرات وتوجّههم إلى ليبيا في 1/9/1999، للمشاركة في احتفالات الفاتح، التي أعلن القذّافي ومن خلالها وعبر خطاب لافت يعكس حجم التحوّلات السياسية لديه، عن «الطلاق مع العرب والكفر بالعروبة، وتوجهه إلى إفريقيا والنضال من أجل وحدتها»، وهناك نجح القذّافي في تحويل «منظمة الوحدة الإفريقية» في قمة سرت إلى «الإتحاد الإفريقي» وكان ذلك بتاريخ 9/9/1999، وكانت خطوة متقدمة باتجاه طرح قيام الحكومة الإتحادية الإفريقية.
شكّل ابتعاد القذّافي عن العرب وكفره بالعروبة معنى أراد الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة أن يكون مرادفاً لمصطلح «الطلاق» مع قضية الصراع مع العدو الإسرائيلي، وفعلاً فقد شكّل ابتعاد القذّافي عن هذا الملف توطئة لتنفرد إيران به، خصوصاً بعد نجاحها الكبير في رفع شأن حزب الله اللبناني كحركة مقاومة، تنفرد بالساحة في جنوب لبنان، بعد انقطاع التمويل الليبي والعراقي عن الحركات الفلسطينية واللبنانية التي كانت تتصدّى لهذا الملف قبيل تثبيت حزب الله أقدامه في الجنوب اللبناني واحتكاره قضية المقاومة والسلاح ضد إسرائيل.
لكن هل أن «الفيتو» الذي وضعته الولايات المتحدة على تدخّل القذّافي في ملف الصراع مع العدو الإسرائيلي عبر دعم واحتضان حركات المقاومة الفلسطينية، يسحب نفسه على تدخّل القذّافي في إفريقيا التي تقتضي الإستراتيجيات الأميركية ضمّ هذه القارّة إلى الشرق الأوسط وقطع الطريق أمام التغلغل الصيني وهو التغلغل الذي لا يمكن أنْ يسير ليصل إلى كل مدياته من دون العبور في بوابة القذّافي؟
هذا هو السؤال الكبير الذي يجب التوقّف عنده، عند دراسة الدواعي والمحرِّضات الستراتيجية للحرب الأطلسية الأميركية على ليبيا، بذريعة حماية الثوريين المدنيين. فكفى تهريجاً أيّها المناضلون وكفى تبرّجاً أيّها الأناضوليون.
وكتوطئة مبكِّرة للإجابة على ذاك السؤال نقول إنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ نجاح القذّافي في إطلاق «الإتحاد الافريقي» من مدينة سرت قد شكّل تعويضاً معنوياً واعتبارياً كبيراً للرجل المحاصر بالمرارة التي تجرّعها من سواد النظام الرسمي العربي الأعظم؛ إنّه التعويض الذي أراد القذّافي من خلاله القول إنّ الأزمة والمشكلة لا تكمن في استحالة تحرير فلسطين، ولا في امتلاك العرب لمقوّمات إنشاء دولة الوحدة العربية، ولا في عجز منظمة الصمود والتصدي لأيّ خطر يتهدّدها، وإنّما تكمن في عدم وجود إرادات صادقة لدى النظام العربي الذي ليس هو إلّا مرآة تعكس مصالح الدول الأجنبية الكبرى.
كانت إندفاعة القذّافي وحماسته في ملفّ الإتحاد الإفريقي وتشكيل الحكومة الإتحادية الإفريقية، توازيان اندفاعته وحماسته في السنوات الأولى التي تلت انطلاقة ثورة الفاتح من سبتمبر. فلقد كان مهتمّاً لأبعد الحدود في بذل الجهود المتواصلة لتحقيق الأهداف المنشودة في ممتعته إفريقيا.
ولأنّه لُدِغ من سياسة حرق المراحل فقد أخذ الجرعة الأولى من العبر، لذلك نجد كيف أنّ القذّافي مهّد لمشروع الإتحاد الإفريقي بمشروع إقليمي سُمّي بــــ «تجمع دول الساحل والصحراء الإفريقية»، وهو التجمّع الذي يضمّ الدول المتجاورة فيما بينها والمتصلة عبر الساحل والصحراء. ويعتبر هذا التجمع الذي شكّل قاعدة الهرم في بناء الإتحاد الإفريقي، واحداً من المنظمات الإفريقية دون الاقليمية النشطة التي كان لها بالإضافة لأطر التعاون والتنسيق الأمني فيما بينها، عدد من المشروعات الإقتصادية والإستثمارية الهامة، لعلّ «مصرف الساحل والصحراء» والذي يعنى بتشجيع التنمية الريفية، في طليعتها.
بهذه المرحليّة، أشرف القذّافي على مشروع الإتحاد الإفريقي، منطلقاً من تأسيسه منظمة إقليمية أساسية من مكوِّنات القارّة السمراء، التي تكتنز بكمية غير محدّدة من الثروات الطبيعية من مصادر الطاقة على اختلافها، والمياه والكتل البشرية التي ناءت تحت تخلف مزمن سببه سياسة الإستعباد الإستعماري من الغرب الأميركي والأوروبي على السواء.
هنا وجد القذّافي نفسه أمام ورشة كبرى من العمل المتواصل لتحقيق مراميه وتطلعات شعوب إفريقيا في التنمية بعد التحرّر من الإستعمار؛ هي الورشة التي «أَفْرَقَتْ» ليبيا بالكامل بدءاً من نشرات الأخبار والبرامج السياسية وصولاً إلى الموسيقى والألحان، حيث أصبح التلفزيون الليبي يبثّ أيضاً نشرات إخبارية يومية بلغات ولهجات إفريقية، وأصبحت الإذاعة الليبية تصدح بالموسيقى الإفريقية، وحتى الأزياء الإفريقية راجت في الأسواق الليبية، والتي يأتي بها التجّار الأفارقة برّاً من تشاد والنيجر ومالي وغيرها.
وكما كان للقذّافي أدواته في ترويض لِيبِيِّيهِ، كانت له أدواته أيضاً في ترويض قادة إفريقيا، ولهذه الغاية أسّس الإفريقيُّ الجديدُ «الملتقى العام للمنظمات الأهلية الإفريقية» الذي يحمل مهمة مواكبة انعقاد القمم الإفريقية ليشكّل القذّافي من خلاله عوامل ضغط على الحكومات الإفريقية كي تصادق على مشروع الحكومة الإتحادية الإفريقية.
ولجعل كل ملوك الأرض، عرباً وغرباً، تحت هالته، وشى القذّافي بتأسيس «الملتقى العام لملوك وأمراء وسلاطين وشيوخ إفريقيا»؛ وهو الملتقى الذي يضمّ ملوك وسلاطين وأمراء القبائل الإفريقية بأعدادها الملايينية، وكان طبيعياً أنْ يُطوِّب هذا الملتقى، خادم العلَمين الشريدَيْن، العلم الليبي الأخضر والعلم الإفريقي الاسمر، معمّر القذّافي، «ملكاً لملوك إفريقيا» في احتفالية كبرى متناغمة مع كل الطقوس المثيرة لتتويج ملك بتاجه وصولجانه المُذهَّبين.
بهذا التقليد، الأشبه بــــ «المغامرة غير المحسوبة»، بدأت أخطاء القذّافي القاتلة بالتراكم وبدأت أسهم وطلقات الإنتقاد المصوّبة إلى صدره تستقرّ في مكانها المستهدف. فلقد نجح المتربِّصون به ثأراً وانتقاماً من العرب والعجم في تركيز عَدَسة الكاميرا على «جنونياته»، في الوقت الذي كان يجب توجيهها على نجاحاته الإفريقية أيضاً. فهناك تمكّن القذّافي من معالجة الكثير من الملفّات الساخنة ومن إطفاء حرائق عدة سواء بين بعض البلدان أو بين بعض القبائل ومنها الصراع السوداني التشادي، وأيضاً الصراع التشادي ـــــ التشادي، وكذلك الصراع بين فصائل دارفور، وأيضاً الصراع بين الفصائل الدارفورية والحكومة السودانية.
وهناك أثنى الرئيس السوداني عمر البشير على جهود وإنجازات القذّافي، لكنّها الجهود التي تعرّضت لنوع من «القرصنة» المفاجئة من قبل الذين سيبرمون مع الزعيم السوداني الإخواني حسن الترابي عقد إطاحة بالزعيم الليبي، في لحظات سياسية بدت لوهلاتها الأولى بريئة، لكنّها لحظاتٌ ما كان أحد يدري أنّها في شكلها ومضمونها توطئة وإشارة يجب أنْ تشي بأنّ حياة القذّافي السياسية قد انتهت بدءاً من إفريقيا بشقّها العربي.
.. من قطر يأتي الجديد هذه المرّة، حيث الأمراء الجدُد يقودون المستحيل كمن يقود سيارة مقودها لزج لزاجة ما بعدها لزاجة، ففي التفاصيل اللاحقة سنحدِّد مكامن اللزاجة ومحلّها ومضامينها، أمّا الآن فنبقى مع القذّافي بعد حراك قطر في المجال الحيوي الإستراتيجي لليبيا وله.
بسحرٍ قطريّ ساحر أخذت الأحلام القذافية بالتبخّر الفجائي غير المصحوب بدرجة حرارة فوق المئة. فحتى فكرة الحكومة الإتحادية الإفريقية أضحت في خبر كان.. ففي حين بدا القذّافي كباعث ومؤسّس وملهم للإتحاد الإفريقي نجده في السنوات الأخيرة يقاتل لكي يَشْغَلَ عُكّازُه علي التريكي منصب رئيس مفوضية الإتحاد الإفريقي، لكنّ الأفارقة ما كانوا ليوافقوا على إسناده لهذا المرشح، الأمر الذي دفع القذّافي إلى نوع من الحرد الذي وصل حدّ التهديد بالإنسحاب من إفريقيا وسحب الإستثمارات الليبية منها، والعودة إلى الشطرين الحرام، العربي والإسلامي، وحتى إلى الخيار المتوسّطي الساركوزي.
طبعاً، كان القذّافي يوجه كلامه الإستباقي هذا للقادة الأفارقة، عشية انعقاد قمة أديس أبابا عام 2008، لكنّ هؤلاء وبهدف استرضاء الزعيم الليبي اتفقوا على تسمية المرشح السابق كرئيس للجمعية العامة للأمم المتحدة مع ما يوفِّره ذلك للقذّافي من إطلالة واسعة على الأمم المتحدة بأجهزتها التي قرّرت يوماً الإجهاز على زائرها الجديد وخطيبها الناقم.
هنا كان على القذّافي أنْ يعدّ العدّة ويستجمع كل مَلَكاته الخطابية ليعيد بريقه المجروح جراء إطلاقات النار المحسوبة بدقة التي تعرّض لها كــــ «ملك ملوك إفريقيا». فماذا فعل؟.
كلنا يذكر الصخب والضجيج اللذين أحدثتهما خيمة القذّافي التي أراد نصبها في مقر إقامته في نيويورك؛ لكنّ هذا الصخب أخذ يتلاشى أمام كلمته المطوّلة التي ألقاها من على منبر الجمعية العامة كرئيس فوق العادة لجماهيريته، فهناك ناقض القذافي نفسه.
وباستثناء فعلته المتمثّلة في تمزيقه ميثاق الأمم المتحدة الذي كانت مزّقته الولايات المتحدة قبله ومنذ عقود، ومطالبته بإجراء تحقيق يتناول مشروعية الحرب على العراق التي شُنّت بناءاً على أكاذيب، (وهي مطالبة سرقها الروس منه بعد مقتله حينما طالبوا بمثل ما طالب) والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الإحتلال الأميركي الغربي بحق المدنيين العراقيين، وكذلك التحقيق في كيفية إعدام الرئيس صدّام حسين، فإن القذافي في هذا الخطاب لم يقدّم شيئاً جديداً، فأعاد تكرار طروحاته القديمة سيما منها المتعلق بضرورة توسيع مجلس الرعب ليضم أعضاء آخرين، فمن حقّ إفريقيا وأميركا اللاتينية أن يشغلا مقعدين دائمين، فهنا أيضاً ناقض القذافي نفسه.
وقفة القذّافي أمام الأمم المتحدة وقبلها وقفاته الأخرى في المحافل الدولية والإقليمية، خصوصاً تلك التي كان يقفها في القمم العربية، كانت ترتدي أهميتها الشكلية دون الجوهرية. وبالطبع هناك الأسباب الجوهرية التي جعلتنا نرى القذّافي يخرج من الخيمة ليقيم في «استراحة» فخمة مصمّمة على الطريقة الغربية. هذه الأسباب سنتعرّف عليها لاحقاً، لكن من الأهمية بمكان هنا أنْ نبيّن أكثر ترف القذّافي، في الشكل دون المضمون.
القذّافي.. وقبيل توجهه للمرّة الأولى إلى صرح العالم الأول، الأمم المتحدة، كانت له سلسلة من المواقف في القمم العربية المنعقدة دورياً، لكنّ الإهانة المقرونة بالتهديد بالقتل التي تلقّاها من ولّي عهد السعودية الأمير عبد الله ابن عبد العزيز آل سعود في قمّة شرم الشيخ حفرت في نفس الرجل عميقاً، وبدأ يعدّ العدّة للأخذ بالثأر، فهو من تعوّد على شتم وتقريع المسؤولين العرب والغربيين، كيف له أنْ يقبل بأنْ يحمل هذه الراية غيره، وخصوصاً من يعتبرهم سراً وعلانية سبب إبتلاء الأمة.
انتظر القذّافي قمة تونس 2005.. لكنّها أُجلت لموعد آخر من العام نفسه بسبب الخلافات بين الوفود العربية على جدول الأعمال. حضر القذّافي القمة، لكنّ غياب ولّي عهد السعودية عن القمّة كان يرفع منسوب التوتر لدى المُهان بسبب «الدَّيْن» المستحق على الأمير عبد الله، ويرفع من ارتياحه أمام جمهوره من أنّ وليَّ عهد السعودية يغيب عن اجتماعات القمّة لأنّه يخاف مواجهته.
انتظر القذّافي قمة الجزائر 2006.. لكنّ الأمير غاب أيضاً. فتسلّى القذّافي بسبحته «إسراطين» كحلّ للمشكلة الفلسطينية. ثم وضعها جانباً ونظر إلى بشّار الأسد ليصوِّب على «محكمة الحريري»، فكيف يُخصّ رفيق الحريري بمحكمة، ولا يخصّص ياسر عرفات ورشيد كرامي وغيرهما من الشهداء بمثلها.
طال الإنتظار إذن.. والأيام تتوالى وثأر القذّافي المبيّت من ولي عهد السعودية، لا يمحوه تقادم الزمن عند صديق الزمن. وقد أُعلن عن فشل محاولة لإغتيال الأمير عبد الله في الرياض، اتُهم فيها اثنان بينهم محمد اسماعيل أحد أبرز المقرّبين من القذّافي ونجله سيف الإسلام.
حلّت قمّة الدوحة الشهيرة.. حضرها الملك عبدالله. فاجأ القذّافي شاتمه السعودي وأمير قطر والقادة العرب والرأي العام العربي الذي كان يتابع عبر الفضائيات أعمال القمّة الذي توقع ثأر القذّافي، بمداخلة وسط مقاطعة أمير قطر الذي قطع الصوت عن أجهزة اللواقط، ردّ فيها القذّافي على تهديدات الملك بمثلها ووضع في خواتيمها مخرجاً تلقفه الأمير القطري الذي سارع إلى ترتيب اجتماع بين العقيد والملك حضره سعود الفيصل وزير خارجية السعودية والعقيد عبد الله السنوسي رئيس الإستخبارات الليبية، ولتنتهي عند هذا الحدّ المشكلة الشخصية بين الرجلين في الشكل ليبقى المضمون منتظراً ساعة الصفر التي بحلولها يجب دكّ الأسوار مهما كانت الكلفة عالية، لكن ليس بالضرورة سامية.
المصدر : http://alichendeb.blogspot.com/2013/03/1969_31.html
الأحد مايو 31, 2015 3:20 pm من طرف الفارس الفارس
» الإتحاد الأوربي و ليبيا
الأحد مايو 31, 2015 3:15 pm من طرف الفارس الفارس
» مدينة سرت الليبية و الجفرة و مناطق الوسط تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش )
الأحد مايو 31, 2015 3:02 pm من طرف الفارس الفارس
» سرت و نقص البنزين
السبت مايو 16, 2015 2:28 pm من طرف الفارس الفارس
» حديث اخضر اللثام للمنظمات الحقوقية عن مايحدث في طرابلس و ورشفانة
الخميس أبريل 30, 2015 8:24 am من طرف عائشة القذافي
» الدكتور مصطفى الزائدي - Dr.Mustafa El Zaidi
الأربعاء أبريل 29, 2015 7:54 am من طرف عائشة القذافي
» بقلم الأستاذ : هشام عراب .
الأربعاء مارس 18, 2015 10:43 am من طرف عائشة القذافي
» نبوءة القذافي يحقّقها آل فبراير، ويقرّ بها العالم ،،
الأربعاء مارس 04, 2015 8:53 pm من طرف عائشة القذافي
» توفيق عكاشة يهدد التنظيم و يطالب أهالي سرت بعدم الذهاب للجامعة
الثلاثاء مارس 03, 2015 10:34 pm من طرف عائشة القذافي
» منظمة ضحايا لحقوق الانسان Victims Organization for Human Rights
الأربعاء يناير 21, 2015 8:49 am من طرف عائشة القذافي
» الدكتور مصطفى الزائدي - Dr.Mustafa El Zaidi
الأربعاء يناير 21, 2015 8:30 am من طرف عائشة القذافي
» معمر القذافي علي قيد الحياة بالدليل القاطع
الإثنين ديسمبر 08, 2014 8:24 pm من طرف الفارس الفارس